الصيام عبادة قديمة تعبد الله بها الأمم قبلنا، وعلم الله سبحانه وتعالى فضل هذه العبادة وحاجة العباد إليها لما فيها من امتيازات وفضل، وفرضها على أمة محمد عليه الصلاة والسلام وزادهم خاصية وفضلاً باختيار شهر رمضان وقتاً لهذه الشعيرة. فأول ما فرض الله سبحانه الصيام لعباده لم يكن في شهر رمضان، بل كان في "أيام معدودات"، ذهب جمهور العلماء إلى أنها جاءت اختيارية في بداية فريضة الصيام، ثم حددت بشهر رمضان في العام الذي يليه من السنة الثانية للهجرة ليصوم العباد في شهر اختاره الله سبحانه لنزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم والشهر الذي فيه ليلة القدر التي تفوق في فضلها ألف شهر. هذا الشهر جعله الله مطية لأقوام من أوليائه يستعملهم ربهم في العمل الصالح ليقربهم، ومطية لأقوام يبعدهم عن سبل الخير، وجعله الله لأقوام يكون لهم حجة لنيل الخيرات والجنة، ولأقوام يكون عليهم حجة. العبد المؤمن إذا استصحب (أدرك) أن القدوم والإفادة على الله ليسا بالأمر الهين، أقدم على ربه بالطاعات والقربات مستغلاً ما حدده الله سبحانه بالامتيازات ووضع لها مواسم تتعاظم فيه مثل ما يجمعه شهر رمضان. الله سبحانه نادى عباده عند فرض الصيام بنداء الكرامة الذي لا يحمل مدحا ولا ذما، إذ إن النداء في القرآن الكريم يتنوع، فمنه نداء نسبة، مثل قوله (يا بني إسرائيل..) ونداء ذم، وعند فرض الصيام نادى الله عباده إليه بنداء الكرامة، وهو (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) ليكون أبلغ في قبول الخير والاستجابة له بالقيام بهذه الفريضة العظيمة. في بداية هذا الشهر الفضيل أوصي المسلمين بأن يعظموا الله في قلوبهم وأن يظهروا له حاجتهم إلى غفران الذنوب، وأن يظهر العبد نيته أن يصوم هذا الشهر ويقومه قربة لله سبحانه، وألا يفوت هذه الفرص التي جمعها له ربه في شهر رمضان. من يقبل على رمضان وهو يجعل بين عينيه أن الموازين يوم القيامة ترجح بالعمل الصالح، يدخل عليه شهر رمضان وهو يستصحب أن هذا الشهر موئل وسبيل ليكثر المؤمن من القربات والطاعات، ومن يعمل بهذا الاستصحاب يكون أقرب إلى رحمة الله، ومن لم يدرك أي معنى لما جمعه الله في هذه الفريضة وفي هذا الشهر حريّ به أن يخسر ويندم إذا فاته هذا الفضل. جعل الله شهر رمضان موسماً للخيرات، وندب الناس للاجتهاد فيه، فهو زاد لباقي العام، وفوق هذا فقد وعد الله من صامه إيماناً واحتساباً بالخير الكثير، فكيف بمن قام بغير ذلك من أعمال الخير كالصدقة والبر والصلة، وقد قام أعداء الله باستنفاد كل طاقاتهم من أجل تفريغ هذا الشهر من كل ما فيه، فسلطوا على المسلمين أنواع الملهيات، فحري بالمؤمنين المحافظة على ما اختاره الله لهم في هذا الشهر الكريم. رمضان شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل الكرامة.. أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. إن كانت حاجة المرء لامتلاك نفسه وكبح جماحها وضبط اتجاهاتها على الحق وحملها على الجادة، وتحمل ذلك أقوام على طلب مناهج وخطط وافق عليها البشر ورضوا بها؛ فإن المسلم يجد في صيام رمضان ضالته ويرى فيه أكبر حافز على تحمل شدائد الحياة والصبر عليها، بما يزخر به من تضحيات يبذلها الصائم من حاجات جسمه ورغباتها، وإن الصيام فطم النفس عما أبيح لها من ملذات وإلزامها بتحمل الجوع والعطش وضبط الشعور من التذمر أو أن يبدر منها ما يحبط صيامه أو ينقصه من الأجر، وإن في هذا الصيام تضحيات يبذلها الصائم ابتغاء مرضاة الله وتصديقاً لما وعد به ربه.