د. صفية الودغيري كاتبة وباحثة مغربية حياتنا فصول.. تعبر بالروح بين قطرات الدم السارية، والعروق الممتدة، والدروب الضيقة، والنبضات الصادحة كتغاريد البلابل الشادية.. وتمضي الساعات والأيام.. ولا يعتبر الإنسان من تلك الفصول التي تلفظ أنفاسها كما تلفظ الأجساد أرواحها.. وتأتي اللحظة التاريخية الفاصلة بين الحق والباطل، فتوقظه صحوة الضمير من غفلته، وتهيج مشاعره الإنسانية التي كانت تبحر على قوارب الملذات، وتنازع روحه شموخ الصخر وتعرجاته الضيقة، وترحل به أشواقه بين طيات النعم، ثم ما تلبث تجاعيد الخطوب والفتن تظهر بجلاء، وتنشب مخالبها داخل تشققات حياته وأجزائها المترامية، وهو يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض كالليل الملبد بالسواد.. ويلاقي من الشدة والرخاء بقدر ما كسب وتصدق ووهب، وبقدر ما أخذ وأعطى وبذل، وبقدر ما استقر في قلبه من درجات الإيمان، وما لفظه من قول وأفصح عنه اللسان، وما صدقه العمل وأبان العقل عن حجته ووعاه الجنان.. ثم تساق روحه وتنسل من جسده لحظات النزع الأخيرة، وينتقل الإنسان المؤمن الصادق من عالم الضيق بأدناسه وأكداره، إلى عالم أرحب بنقائه وصفائه، ونعيم الجنة الوارف، وعذفها المذلل. إنها لحظات نفيسة.. تتلقاها النفوس المطمئنة بالبشر والاستئناس، ومن تمام إكرامها إلى استقبالها أعجل، إلا أنها تساوي أمدا بعيدا لدى من لم يبادر بالعمل، وألهته الدنيا بملذاتها وشهواتها الفانية، عما ادخره الله تعالى لعباده الصالحين "مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، ومصداقا لقوله تعالى: ﴿فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ جزاء بما كانوا يعملون﴾ .. وإنها لحظات الميلاد.. أشبه بتلك اللحظات التي استقبل فيها الإنسان الدنيا بأشواقه، فمد إليها ذراعيه الصغيرتين يوشك أن يحضن كل شيء فيها، ويطبع على الوجوه المستبشرة بقدومه لثمات الأفراح، أول انبعاثه وخروجه من الرحم نقيا طاهرا على فطرته التي فطره الله عليها.. ولحظات الخلاص والانعتاق.. حيث تتحرر الأرواح من الأثقال والأكدار، ومن أغلال الجسد والمادة، ومن رق العبودية لغير الله، وقيود الملذات والرغبات والأطماع الفانية.. وليست إلا صرخة واحدة.. تلفظها النفس في صمت حين تغادر الدنيا، كتلك الصرخة المجلجلة في الآفاق، التي يطلقها المولود عندما يتسلل أول شعاع من النور إلى بصره الضعيف، وعند استنشاقه لأول نسيم هواء يسري إليه عبر خياشيم أنفه الفتي الناعم، مختلطا بذرات المادة وعثة الغبار.. إنه المخاض نفسه.. ولكن شتان ما بين مخاض الميلاد ومخاض الموت، فكلاهما يحمل ما يحمله من أنات الوجع، ومشاق العنت، ومن مكابدة الضيق في الرحم، إلى مكابدة الضيق في القبر، وكلاهما يستقبل حياة جديدة مختلفة عن الحياة القديمة.. وفي كل يوم يخرج للحياة الدنيا مولود جديد، يقبل عليها بأفراحها وأتراحها، ورخائها وشدتها، ومولود ينتقل للحياة الآخرة، ويقبل عليها وهو لا يدري على أي قطريه يقع، وعلى أي شقيه يقع في خاتمة رحلته، أعلى شق الإسلام أم غيره، أعلى شق النعيم والسعادة أم على شق العذاب والشقاء.. إنها رحلة بين زمنين وعالمين مختلفين.. وقد تطول هذه الرحلة أو تقصر، ويتسع المكان أو يضيق، ويمتد الزمن ويتضاعف أو ينقص ويتقلص، وبعدها تهدأ النفس وترتاح من عناء الترحال ومشقة الانتقال، خلال دورة يصحو فيها الخيال الشارد من أحلامه السابحة في محيطات مترامية الأبعاد والألوان .. وتتذكر النفس حينها أثار خطاها ومواطئ أقدامها، وموارد السقاء التي كانت تردها، وما كان العقل والقلب يرتوي منه شربا رويا، ومواكب الأفراح والغبطة التي تحث أشواقها، وما كانت تلقطه اليد من السنابل، ومن حصاد الزرع، والرطب من العذق.. وتتذكر ما كان لها في كل ركن من هذه الأرض العامرة بالأفراح والأحزان، وما سجلته الذاكرة وحفظته من تاريخٍ مشرق حافل بالأمجاد، وتاريخ مظلم مليء بالزلات والنكبات والانكسارات، ورائحة الأشلاء التي ضجت من الحروب الطاحنة تحصد الرؤوس تلو الرؤوس.. وحياتنا فصول.. تتلون بألوان الأرض والسماء، وألوان النفس التي لها في كل يومٍ شأن وشأو، ولها في كل مكان مقام ومنزل، وفي كل أرض سعي، وكسب، وكدح وعمل.. وحياتنا تتغير كل يوم، فنرتدي لكل مناسبة ثوبا جديدا للأعياد، وثوبا للأحزان وأيام الحداد، وثوبا للأفراح والأعراس، وثوبا للرزايا والخطوب.. في زمن يمتد امتداد الشروق إلى الغروب، وامتداد النهار إلى الليل، وامتداد الضوء والنور، والظلام والعتمة، وامتداد الحياة إلى إدراك الموت.. بقلوب عرفت معنى السعة بعد الضيق، والضيق بعد السعة، ومعنى الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة.. ومعنى الميلاد بعد الموت، حين تكون القلوب عامرة بالإيمان، مزهرة بتقوى الله وخشيته، كأولئك الذين ذكرهم الحق سبحانه فقال تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس).. وقلوب عرفت معنى الموت بعد الميلاد، حين فقدت نبراس الأمل، وانطفأ بداخلها سراج الحلم، وخبت شعلة الإيمان، وفترت همتها وقريحتها، وضاع منها الهدف، وانحسرت غايات الوجود النبيلة، مثلها كمثل أولئك الذين أخبر الحق سبحانه عن أحوالهم فقال تعالى: (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) وحياتنا رحلة عابر سبيل.. عرف معنى الانتقال من محيط مادي ضيق إلى محيط أرحب وأوسع بعد الموت، فاستحضر معنى الخوف من الله فلزم حوضه يرتشف من معين نوره، ويحلي لسانه بجلال كلمة "الله أكبر"، يلهج بها ويصدح عند كل تكبير وكل صلاة ونداء.. واستحضر معنى رقابة الله في السر والعلن، فصار أشد الناس حرصا على أقواله وأفعاله، ومعنى رحمة الله والرجاء فيما عنده فأحسن الظن به، تصديقا وعملا بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل».. وحياتنا.. أجمل بهذا التكامل والانسجام بين كل تلك المعاني التي تشرق ببريق الأمل، فيصحو الفرح، وتنقشع غيوم الأحزان، وتفيض قطارة الحب، فيصير للإنسان هدفا وغاية، ورسالة نبيلة يعمل لأجلها، ويكون منتجا، وعنصرا فعالا وإيجابيا، حتى مع استحضار الموت.. ويظل الأبطال الفرسان هم من انتصروا على ملذاتهم في هذه الحياة الدنيا، ثم خرجوا منها وقد تزودوا لطريق شاق وطويل بطاقة إيمانية، وطاقة السعي والمجاهدة، والكدح بلا كلل ولا ملل، فاستحقوا أن يظلوا عظماء، وخالدين في سماء المجد، بما أشاعوه من أخلاق نبيلة، وما حققوه من إنجازات عظيمة..