عندما قال غازي القصيبي في قصيدته: "كلمات من ملحمة الوجد": أقول أحبك... في زمنٍ يخجل الناس فيه من الحب لا يخجلون من الحقد والكبر والعنف لكنما الحب يجرح فيهم إباء الفحولة يحرجهم.. يتلعثم واحدهم حينما يذكر الحب لكنني من دون لحظة شك ودون هنيهة خوف أقول أحبك !.. أكتبها في الدفاتر أعلنها في المنابر أزرعها في الغيوم وأنقشها في الرمال أقول أحبك من غير أن أتحفظ أو أتردد أو أتراجع.. أكتب حبك شعراً ونثراً.. وتاريخ وجدٍ وعصر حنينٍ وقرن غرام وهذا الصباح نهضت فلاحظت أن السماء أرق لأني أحبك إن الورود أشد احمراراً لأني أحبك إن الغيوم ترش الرذاذ لأني أحبك قلت: صباحك نور وورد وغيم وحب أقول: حينما قال القصيبي هذه القصيدة، كان يدرك تماماً أن الحب عاطفة إنسانية نبيلة وضعها الله تعالى في نفس الإنسان، وجعلها حاكمة لا محكومة، حتى إن الله تعالى لا يحاسب من زاد ميله القلبي إلى إحدى زوجاته عن الأخرى، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك". وهذه العاطفة السامية إنما تقود صاحبها وتحكم السيطرة عليه، وهنا تبرز المشكلة؛ فإذا لم يكن المحب قادراً على الانقياد المحمود، الذي لا يودي بصاحبه إلى الهلاك، جردته هذه العاطفة من عقله وأوقعته فيما وقع فيه قيس بن الملوح من سهر وهيام وسقم، إلى أن وقع في دائرة الشرك فعلاً، حتى وإن حاول نفي ذلك قولاً: أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد الليالي وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالليل خاليا أراني إذا صليت يممت نحوها بوجهي وإن كان المصلى ورائيا وما بي إشراك ولكن حبها وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا هذا هو مكمن الخطورة في الحب، ولكن هل كل المحبين قيس؟!. المشكلة الأكثر انتشاراً لا تتمثل في فعل الحب، وإنما تتمثل في التصريح به، وهذا ما التفت إليه غازي القصيبي في قصيدته "كلمات من ملحمة الوجد" التي تعد بمثابة هجوم مباشر على ثقافتنا التقليدية التي ترى في التصريح بالحب ضعفاً وانتقاصاً من رصيد الرجولة والفحولة، بينما لا ترى ذلك الانتقاص والضعف في التصريح بالحقد والكبر والعنف!. ومن ثم لم يصرح شاعرنا بحبه لمحبوبته فحسب، وإنما عمد إلى الإعلان عن هذا الحب فيما يشبه التحدي: أقول أحبك !.. أكتبها في الدفاتر أعلنها في المنابر أزرعها في الغيوم وأنقشها في الرمال هذه الجرأة في التصريح بالحب، لم تكن لتتحقق لولا القناعة التامة بنبل هذه العاطفة، وما لها وللتصريح بها من أثر عظيم، تبدو ملامحه الأولى على العلاقة الزوجية التي قد تكون على شفا حفرة من الانهيار، فتذيب كلمة (أحبك) كل جبال الجليد، ليعود دفء الحياة من جديد، ثم ينتقل هذا الأثر الجميل إلى المجتمع كله، فيكون الإخاء والتصالح والتسامح والتراحم، وكل السمات التي تنبثق عن الحب، ركيزة أساسية يبني عليها المجتمع دعائم الحضارة والبقاء. ولا يقتصر هذا الأثر على الإنسان فحسب، وإنما يمتد ليشمل كل ما يحيط بالمحب: وهذا الصباح نهضت فلاحظت أن السماء أرق لأني أحبك إن الورود أشد احمراراً لأني أحبك إن الغيوم ترش الرذاذ لأني أحبك هكذا يكون الانقياد المحمود للحب، بعيداً عن شبهات الضعف والانتقاص، وسالماً من عقدةٍ كرستها ثقافة تقليدية بائدة، ومتفادياً دروب الهوس التي هام في أرجائها قيس بن الملوح؛ إذ حينما طغى الحب على غازي القصيبي، لم ييمم نحو محبوبته تاركاً مصلاه خلف ظهره، وإنما كان في حبه جميلاً، فرأى الوجود جميلاً!. هذا هو الشاعر الكبير غازي القصيبي...، الشاعر الذي أسس مدرسة في الأصالة والنبل والمواجهة. وحين يحن الشعراء الكبار إلى تجاربهم ومسوداتهم الأولى، ليس بغية تنقيحها أو مدها بعمر آخر من التجربة التي امتدت بعدها لسنوات طويلة، وإنما أجواء حميمية تشدهم إليها، تماماً كحنين القروي إذا ما سلبتْه المدينةُ روحَه الأولى، إذا ما عضّته الغربة وشيأته قسوة الحضارة ووحشة التكنولوجيا، إذا ما صار الإنسان مجرد ترس في آلة!. هنا: تصير رائحة التراب، وظل التوتة، و"شاي العصاري" وملامح البدوي، والجدران الطينية أحب إليه من أضواء باريس أو سحر روما!. أقول: نعم يحن الشعراء، ولكن من منهم يجرؤ على طباعة هذه التجارب والمسودات الأولى، خاصة إذا ما أصبح اسماً كبيراً في عالم الشعر والشعراء؟، من منهم يسعى لبث روحه الأولى في قلوب محبيه؟! من منهم أعطى الحق لبراعمه الأولى أن تحيا في النور، دون التفات لما قد تتصيده المحاكمات النقدية؟! لا أحد إلاّ غازي القصيبي!. غازي القصيبي الذي أصدر كتابه الشعري (البراعم) عن "دار القمرين للنشر والإعلام" قبل أشهر قليلة، ليضم 54 قصيدة مما كتبه بين سني السادسة عشرة والتاسعة عشرة، ولسبب أو لآخر - كما يقول - لم يضمنها أياً من مجموعاته الشعرية السابقة، ينشرها اليوم آملاً أن تحظى باهتمام بعض القراء، أو تفتح شهية بعض الباحثين!. هي خطوة كبرى - أراها - لمن أراد الوقوف على المنجز الشعري لشاعر بحجم غازي القصيبي من بدايته، ليرى كيف تطور قاموسه الشعري حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن، وإلى ما سيصل إليه في أعماله القادمة. خطوة كبرى لمن أراد الوقوف على تجربة القصيبي الشعرية منذ ميلاد الموهبة حتى ابتكار الصورة. الشاعر الذي حن لكتاباته الأولى واعترف بحقها في الحياة، إنما يعترف أيضاً بحق قارئه ومتلقيه في أن يتنفس معه هذه الروح العذبة، تلك الروح التي قالت في قصيدة "رسائل"، المكتوبة في المنامة عام 1956: أحرقتُ أمسي حينما أحرقتُها ودفنتُ بين دخانها أشواقي ورميتُ أوهامَ الهوى.. وجنونَهُ في جمرها المتوهجِ البرّاقِ وأخذتُ أحشدُ ذكرياتِ صبابتي فيها.. وأعدمُها بلا إشفاقِ ووقفتُ أقرأ في سطورِ رمادها غُصصَ الهوى.. وكآبة العشاقِ والتي قالت أيضاً في قصيدة "قصة للنسيان" المكتوبة في القاهرة عام 1959: لا تشمخي! ما أنت أول فتنة هامت بسحر جمالها عينانِ ستجف أزهار الشباب.. وينطوي زهو الربيع الغض في الأكفان ويفر عشاق الجمال.. وترتمي عيناك تبحث عن حبيب حانِ فتعود مثخنة بدمعٍ.. مثلما عادت عيوني منك بالحرمانِ لا تهمسي "عذراً !".. فلست بحاقدٍ أنْ أُبتُ منك بلوعة الخذلانِ أنا لست مثل الناس أفرض صبوتي فرضاً.. وأهجم كي أنال مكاني الحب عندي واحة سحرية يأوي إلى جنباتها القلبان ضلوا إليها في القفار.. ودربُها نظرات عينٍ أومضت بحنانِ أنا لا ألومكِ إن صددتِ.. فأنت في دنيا تعدُّ الشعر كالهذيانِ عميت عن السر الدفين عيونُها فمضت تهيمُ بزخرف الألوانِ طيف الخلود أمامها.. لكنها تحيا على وهمِ التراب الفاني هيهات تشعر بالخلود نواظرٌ شُغِلَتْ عن الأرواح بالأبدان لا لن أنوح على هواك.. وفي دمي زهو الشباب.. وفي المساء أماني ما أنت في دنيايَ إلاّ قصةٌ تنساب في صمتٍ إلى النسيانِ وغيرهما من القصائد التي تقطر جمالاً وعذوبةً وروعةً. هكذا يضرب القصيبي المثل أيضاً في الشفافية والجرأة، لتكتمل مدرسة الحب التي تركها فينا، وستسير على هداها أجيال وأجيال، رحم الله شاعرنا غازي القصيبي!.