الآن أشعر أنك تشم رائحة الحرية أكثر من أي وقت مضى، تتذوق طعمها كنحلة قطعت مسافات طويلة من أجل زهرة حلمت بتفتحها طويلاً. الآن وأنت ممدد على سريرك الصغير بلا ارتجاف أطرافك، ورعشة جسدك البارد الملفوف بشال مصنوع من قطعة قماش خشن لا تستطيع نطق كلماتك بانتظام .. ولا إخراج قطع الحلوى من جيبك لتوزعها على الصغار والتهام واحدة خلسة عن مراقبة ممرضتك التي دائما ما تقابل تمردك بعتاب رقيق .. فمعدتك لم تتعود هذا المذاق الخارج عن المألوف في حياتك ... إلا أنه بمقدورك الاستماع لصراخ الأطفال وهم يركضون خارجا دون أن يتربص بأحلامهم موت غرسته مخالب الظلم والظلام. بمقدور روحك أن تشاهد بهجة السماء من خلال نافذتك وتبتسم .. وبمقدور قلبك الذي توقف للتو أن يغفو بهدوء وهو يردد أغنية كنت قد سمعتها من أمك عندما كانت تعد لك طعام العشاء . آه .. ثمن الحرية كبير أيها الكهل النحيل .. دفعته من حياتك عشرة آلاف يوم دون أن تنحني لقسوة القضبان .. أخبرني كيف استطعت رسم أحلامك على جدار داكن خشن؟! وكيف جعلت لها أجنحة تسافر برسائلك نحو الشمس؟ الشمس التي سرقوها منك حتى لا تكبر أمام عينيك، أعلم أنك لن تخبرني .. لأنك آثرت الصمت لنتحدث نحن عنك طويلاً، ولتبقى صورتك عالقة على أجنحة طيور السماء المؤمنة بأن الحرية هي طريقها الأبدي. ماديبا .. يا صديق الفقراء والمهمشين .. يا قصيدة الغروب التي لوحت بالوداع ... ماديبا .. أيها العجوز الذي استطاع هزيمة السجن والوقت والسجان .. ها أنت ترمي منديلك الأبيض وتضع النقطة الأخيرة فوق سطرك الأخير وتنحني بسلام. * كاتب وقاص سعودي