إن النقلة النوعية المتقدمة في مجالات التنمية في مملكتنا الحبيبة تستوجب أن تقابل بفكر وأفق واسعين، وتضع على عاتق الطبقة المتعلمة والمثقفة مسؤولية تطوير الذات والخروج من النهج التقليدي ليواكب هذا التطور، بل يشارك فيه بإحداث أثر إيجابي بدفع عجلته للأمام.. فالطبيب ما عاد ذلك الطبيب الذي يعتمد على أعراض الداء ويصرف بناء عليها الدواء ولديه من الأجهزة الطبية الدقيقة التي تؤكد ثبوت الداء من عدمه، وكذلك المهندس لم يعد يعتمد على الأيدي العاملة لرفع مواد البناء للطوابق العليا وبين يديه أضخم ما توصل إليه العالم من رافعات ومعدات. أنبه من عدم التخصصية لدى العديد من المحامين أو الجهات واللجان القضائية في ممارسة مهنة المحاماة، فلا تعتبر من الممارسات الصحيحة والإيجابية للمهنة أن ينحصر المحامي في الأعمال القانونية اليومية، وهي المرافعة أمام المحاكم واللجان القضائية وشبه القضائية وصياغة عقود أو متابعة قضية أحوال شخصية، مع أن المجالات التخصصية التي يجب الالتفات لها لا تُحصى فتجد الأكثرية على هذا المسار دون التميز بما هو قانوني تخصصي ونادر بين المحامين وبنفس الوقت مطلوب، وهو ما يعطي الكفاءات غير الوطنية للتواجد لإنجاز بعض الأعمال بينما الوطنيون جميعهم في نفق واحد، فلا نجد من تخصص في قانون الطيران أو تقنية المعلومات أو قانون الإنترنت أو القانون البحري أو القانون الدولي العام والتعاملات القانونية ذات العلاقة به. فلِماذا نحصر أنفسنا فقط في المدافعة والمرافعة بطريقة تقليدية متواترة لمتابعة قضية حقوقية أو إنهائية مع تقصير في تطبيق الأنظمة من قبل الجهات التي تباشر النظر والتقاضي؟ وهذه ليست دعوى للعدول عن هذه الأعمال والمتابعات، بالعكس فإن القيام بمثل هذه الإجراءات والمهام يعتبر من صميم عمله، ولكن أقصد المشاركة من جميع الأطراف في تطوير وطَرق الأبواب لمجالات وتخصصات تتسم بالعالمية وتحتاج حاجة ماسة لمحامين متخصصين. وعلى سبيل المثال لا الحصر مجال قوانين الطيران، فكم النسبة التي تتطلب ذلك؟ تكاد تكون معدومة، فكم هم الذين يمارسون العمل بكفاءة في مجال أنظمة الحفاظ على سلامة البيئة بشكل عام والبيئة البحرية على وجه الخصوص وتحديد المسؤولية المدنية والجنائية للناقل البحري عند ارتكابه جريمة تلوث البيئة البحرية، أو المصانع التي تتورط في تلوث البيئة؟ وكم هم من المحامين الذين تخصصوا في حل النزاعات والخلافات الناشئة في مجال التأمين؟ وكم هم من المحامين الذين تخصصوا في حل النزاعات المصرفية والتي تنشأ بين البنوك وعملائها في الداخل والخارج، على الرغم من أنها تمثل عصب القطاع الاقتصادي في المملكة وخارجها، ولكن للأسف فإن حضور جلساتها يعتمد بنسبة كبيرة على موظفين ومعقبين تابعين لأطراف الخلاف وأخص في ذلك البنوك بالتحديد. هذه صرخة أقذف بها في أسماع المحامين واللجان القضائية وأقول لهم التخصص والتميز لأن التخصص تتولد منه الكفاءة، وهما الطريق الوحيد للتفرد ولا يتأتى ذلك إلا باهتمام الفرد بتطوير ذاته مع وجود مراكز تدريبية متخصصة تعقد دورات لإعداد وصقل القانونيين الملتحقين قديماً وحديثاً بمهنة المحاماة كما هو متبع عالمياً، بالإضافة لدورات خارجية. إن عدم الالتفات لهذا التميز ألقى بتأثيره السلبي على مهنة المحاماة وجعلها تتصف بالمحلية، إذاً يجب أن نبادر لمواكبة التطور الذي تنعم البلاد باطراده حتى لا يستعان بعد الله سبحانه وتعالى بأكفاء من الخارج للقيام بهذه المهام، فالمحاماة لم تعد مجرد مرافعة ومدافعة فقط، بل هي مجال يتطور وتتسع آفاقه بتطور المجتمع، ولا سبيل للخروج من هذه التقليدية والمحلية إلا بأمرين هامين، أولهما أن يبدأ المحامي بالنظر في المجالات الأخرى غير التقليدية إذ بدت الخدمات المقدمة من المكاتب المحلية متشابهة مع اختلاف طفيف جداً، وثانيهما أن تلتزم الجهات الخاصة والحكومية بمساعدة ومشاركة أهل الكفاءات والخبرات العالية بإسناد المهام إليهم ومنع غيرهم من مزاولتها. حيث بدا ظهور ذلك في مجتمع الأعمال ووصل إلى الجهات الحكومية بما فيها الوزارات، فقد تهاون بعضها بعدم الاشتراط في التعامل إلا مع محام محلي مرخص خاصة في المنافسات المطروحة، والتي تستوجب المجال القانوني والإلمام بالأنظمة المحلية، وذلك عن طريق الدعوى المحددة لمكاتب معينة أي لا يمكن لأي مكتب استشاري آخر الحصول على هذه الوثائق لدراستها أو الاتحاد مع من يمكن التحالف معه لإتمام متطلباتها، وهو ما يعطي المجال لتوسع الفوهة ومن ثم نعود لنواجه معضلات التوطين والسعودة كما هو على الساحة حالياً، ولكن للأسف فإن الجهات القضائية والحكومية العامل الأساسي لإيجاد هذه الظاهرة لتواجد استشاريين لا دراية لهم بالأنظمة، ليجدوا أمامهم مجالا متسعا للقيام بمهام إدارية دون احترام لما صدر حيال ذلك من أنظمة أو أوامر سامية.