لعل كرم الملك عبدالعزيز رحمه الله السمة الخلقية الأبرز في سيرته الطيبة؛ فهي تكاد لا تخفى على أحد، لكن تلك الفضيلة لا تقتصر عنده على فيض العطاء وحسب، بل تشمل السماحة في النفس إلى جانب البسطة في اليد، ومعلوم أنه في مجال الحكم فإن بسطة اليد إما أن تكون لمساعدة ذوي الحاجة من الرعية، وإما لتحقيق أهداف سياسية مهمة، على أن كرم الملك عبدالعزيز ضم الناحيتين معًا: معونة المحتاجين من منطلق ديني أخلاقي، ثم بذل العطايا لأهداف سياسية من قبل السائلين، والغاية في ذلك توحيد الجزيرة من أجل إقرار الأمن فيها؛ ومن ثم توفير الطمأنينة للناس. لقد أيقن الملك عبدالعزيز بأن كل ما أوتي من مال وخير ما هو إلا من محض كرم الله، فيجب ألا يضن به على عباد الله؛ لذلك كان - تغمده الله برحمته - يكرم الضيف، ويجزل العطاء لكل زائر، وكان يعطي بنفس سمحة، حتى وإن كانت الخزينة على وشك النفاد، وهو الذي طالما وصف نفسه بأنه كالجزور؛ يستطيع كل إنسان مستحق ذي يد ماهرة أن يقتطع منها ما يريد.. هذا السخاء كان يقلق عبدالله بن سليمان وزير ماليته قلقًا شديدًا؛ حيث كان ذلك يلزمه أن يعدل في ميزانيته باستمرار! وكان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يردد دائمًا قوله: "إن الله عودني عادة أن يتفضل علي، وعودت عباده عادة أن أوسع عليهم، فأخاف أن أقطع عادتي فيقطع الله عادته عني.. كل ما يرد أنفقه على المسلمين، وهذا حق لهم". إن حياة الملك عبدالعزيز مملوءة بذلا وسخاء، وإليك فيما يأتي بعضًا من ذلك: - لما وفد عليه وافد، وأراد الملك – كعادته – إكرامه، وأخذ قلمًا وكتب له ب300 ريال، ولكن القلم زاد صفرًا، وتردد المختص وراجع الملك، فقال الملك: إنها شطحة قلم، أعطوه 3 آلاف، ولا يكن قلم عبدالعزيز أكرم من عبدالعزيز! - وذات يوم أقبل على سيارته إعرابي هرم، وكان الملك في زيارة اعتاد القيام بها بن الفينة والأخرى متفقدًا أحوال القبائل، حاملا كيسين من النقود، أحدهما للفضة والآخر للذهب، فلما أن مد الملك يده يريد كيس الفضة، وأخرج منه قبضة، كانت القبضة من كيس الذهب، وبعد طرفة عين من التردد دفعها إليه، ولاحظ أنه أعمى، فقال الملك: إن النقود التي أخذتها ذهب، فلا يضحكوا عليك، والتفت إلى من كان خلفه في السيارة، وقال: سبحان الله! أردت أن أعطيه بعض الريالات الفضية، ودخلت يدي في كيس الذهب، فلما عرفت ذلك راودتني نفسي أن أرد الذهب، وآخذ من كيس الفضة، ولكن قلت: هل تكون يدي أكرم مني؟! - ليس ذلك فحسب، بل كان - رحمه الله- ذات يوم يمتطي ناقة له مشهورة بقوتها وجمالها، فلما وصل إلى مكان خارج المدينة، أوقف ناقته، ودعا رفاقه إلى الاستراحة، وإذا برجل كان يستريح في ذلك المكان، فحيا الملك باحترام قائلاً: السلام عليكم يا عبدالعزيز. فأجاب الملك: وعليكم السلام، من أنتم؟ فقال الرجل: إني قادم من المدينة. قال الملك عبدالعزيز: وأين ناقتك؟ فقال الرجل: ماتت في الطريق، وليس عندي مال يكفي لشراء غيرها. قال الملك عبدالعزيز: أنت عازم على العودة إلى المدينة؟ قال الرجل: بعد أيام، بإذن الله. قال الملك: إذن خذ هذه الناقة؛ لأنه لا يسعك أن تعود على قدميك. هذه شواهد تكشف بجلاء أن كرم الملك عبدالعزيز كان سجية عنده، مجسدًا لإنسانيته ومروءته، وحبه لمواطنيه. نعم، لقد عرف الفقراء حب الملك عبدالعزيز للإنفاق؛ فصاروا يترقبون رؤيته، حتى في قلب الصحراء، فهو لم يكن يركب سيارته إلا بعد أن يملأها بمئات الريالات بل بالألوف، وكلما صادف فقيرًا أوقفه وأمر مرافقه بإعطائه بعض الأموال. وانظر بهذا الشاهد إلى سمو تعلق قلبه رحمه الله بما عند الله تعالى، فقد استوقفته عجوز في الطريق، وقالت له: يا عبدالعزيز أسأل الله أن يعطيك في آخرتك كما أعطاك في دنياك، فسر جلالته لهذه الدعوة أعظم السرور، وأمر أن يعطى لها كل ما كان لديه في السيارة؛ فإذا بها عشرة أكياس، كل كيس به 500 ريال، المجموع 5 آلاف ريال، فلما أعطيت لها عجزت عن حملها فأمر لها جلالته بذلولٍ تحمل عليها هذا المبلغ، بل أمر أحدهم أن يوصلها إلى منزلها في قلب الصحراء! - لم يكن هذا فحسب، بل نجده على الجانب الآخر قد أقام للفقراء عمومًا - ورجال البادية خصوصًا- دارًا للضيافة، والتي عرفت باسم "ثليم"، وأطلق عليها أيضًا: "المضيف" يقدم فيها للفقراء الأرز والجريش واللحم، هذا بخلاف قصره الذي يكتظ كل يوم بمختلف الوافدين عليه من كل جهة، خصوصًا رجال القبائل والأجانب. وقد عودهم عادة لم تتخلف أبدًا؛ وهي أن يقدم لكل وافد ضيافته من اللحم والأرز والسمن وما أشبه ذلك، ثم يعطى عند ارتحاله كسوة تختلف باختلاف مكانة الزائر، وهي لا تقل عادةً عن عباءة، وتكون غالبًا كسوة كاملة، وقد تزيد إلى ما لا نهاية له؛ من سيف، أو خنجر، أو ساعة، إلى سيارة بل سيارات؛ يضاف إلى هذا نفحة مالية لكل منهم تبدأ من عشرة ريالات إلى مئات الجنيهات تسمى"الشرهة". أما ما يعطى للنساء فغالبًا ما كان يسمى "الصوغة"، وكان من دواعي سرور الملك أن تقبل منه الهدية؛ خاصة (بقشة) الملابس. وإن ما يزين هذا السخاء حقا أنه كان مقترنًا بعظم تواضع الملك لربه سبحانه، وتحدثه بنعمته عليه، فقد كان ينفق كل هذه النفقات، ويعطي كل هذه العطايا، وهو يقول لشعبه: "إني لم أحصل على كل هذه الأموال بمجهودي، بل هي رزق من الله قدره لي، وجميعكم شركاء لي فيه، ولذلك أرجو أن ترشدوني إلى ما يقربني إلى ربي، ويكون وسيلة لغفران الله لي".