جاءت الأمسية الأخيرة للشاعر العراقي عدنان الصائغ التي استضافها مقهى هافانا في مكةالمكرمة، بمثابة استرجاع لأدوار المقهى في الثقافة العربية. فحتى منتصف القرن العشرين ظل المقهى في التراث العربي مكاناً عاما يؤدي وظيفة اجتماعية وثقافية، وعرفت الحجاز بشكل خاص شكلاً متقدماً من أشكال المقاهي بوصفها حاجة اجتماعية وثقافية، حيث كانت ولوقت ليس بالبعيد، مظلة لسكان الحي يلتقون تحتها، ويتبادلون أفكارهم ويناقشون قضاياهم، ومع التحول لمجتمعات مدنية ذات طبيعة استهلاكية، وتفرق شمل سكان الحارات، تحولت المقاهي بدورها إلى مكان يقصده الغرباء أكثر من مكان يجمع الأقرباء، ومع هذا ظل الحنين إلى المقهى بتقاليده الكلاسيكية قائماً في وجدان الناس، حتى إذا واتتهم الفرصة انتهزوها لإقامة مقاه لها طابعها الثقافي الذي يعيد للمقهى التقليدي صورته القديمة. يعتقد حامد القرشي الذي أنشأ قبل عام في حي العوالي بمكةالمكرمة مقهى باسم هافانا كافيه، أن المقهى الثقافي أصبح حاجة ماسة في ظل تعدد الخيارات الثقافية عند الأجيال الجديدة، وبالتالي لم يعد بإمكان الأندية الأدبية ذات الطابع الرسمي أن توفر جميع هذه الخيارات أمام الشباب المبدعين، ففي هافانا يقول القرشي نقدم أشياء مختلفة عما تقدمه الأندية الأدبية، وذلك بسبب بعدنا عن الرسميات، والفرق بين المقهى وبين النادي أن الثقافة تذهب إلى الناس في المقهى، بينما يذهب الناس إلى النادي للثقافة. ولا يفضل القرشي تعبير ثقافة بديلة، ولكنه يستخدم تعبير حرية التناول، بمعنى أن المقهى الثقافي يوفر للمبدعين مستوى من الحرية في تناول القضايا الثقافية لا توفره الأندية الأدبية. أما تأثير هذه المقاهي فيربطها القرشي بتوسع الظاهرة، فإضافة إلى توفر مكتبة كبيرة داخل المقهى توفر لروادها إمكانية المطالعة في مختلف الآداب والفنون، فهو يوفر أيضاً أجواء حميمة بين المبدعين أنفسهم وبين الحضور، كما أن حماس المشتغلين على هذا المشروع يوفر أفضلية في الاختيار. يقول القرشي: نحن متطوعون، وندفع من جيوبنا لإقامة أمسيات ثقافية، وبالتالي فإننا نعمل مدفوعين برغباتنا الخاصة، وهذا سيعطي إذا توفر عددا أكبر من المقاهي دفعاً أكثر اتساعاً وأفضل مستوى للحراك الثقافي. تسويق الثقافة يتوفر في مكة أيضاً منتدى باسم "نادي كتاتيب للقراءة " أسسته مجموعة من أبناء مكةالمكرمة يناقشون فيه شهرياً أحد الكتب أو المواضيع التي تم اختيارها عن طريق التصويت بين الأعضاء ومن ثم الخروج بتوصيات وآراء تعبر عن المجموعة والأعضاء الذين يبلغ عددهم 15 عضواً، إلى جانب الضيوف الذي تتم دعوتهم إلى حضور جلسات النادي. أما في جدة فقد تأسست خمسة مقاه ثقافية لكل منها أسلوبه وبرامجه الخاصة منها مقهى "أرومشي" الذي أنشأه الإعلامي كمال عبدالقادر الذي يفسر وظيفة المقهى بأنها وظيفة مركبة، فهو مقهى وناد ثقافي في آن واحد، ويقول عبدالقادر إنه يتمنى أن تتكاثر المقاهي الثقافية لأن تجربتنا في "أرومشي" أثبتت أن المشكلة ليست في طبيعة الناس التي تكره الكتاب بقدر ما هي مشكلة طبيعة الأداء الثقافي للمؤسسات الرسمية، فقد تبين لنا أن ما يزيد على 14% من رواد المقهى يحضرون للقراءة وهذه نسبة عالية بالمقارنة مع نسبة القراء في الوسط الاجتماعي، وهذا يعني أن هناك استعدادا عند الناس للقراءة لكنهم لا يجدون اهتماماً بهم، فهناك على المستوى العام الرسمي عدم اهتمام بالمعرفة، والمثال الصارخ على ذلك أنه لا يوجد لدينا في جدة مكتبة عامة. ويضرب عبدالقادر مثالاً على اهتمام الناس بالقراءة، فقد كون مجموعة يزيدون عن خمسة عشر شاباً وشابة ناديا خاصا بهم أسموه "نادي الفالوذج" يجتمعون صباح كل خميس في المقهى، وفي نهاية كل شهر يعقدون اجتماعاً لمناقشة كتاب قرؤوه معاً، ويضيف: بينما المؤسسات الثقافية الرسمية تتعامل مع طبقة محددة من المثقفين، فإن المقهى يتعامل مع جميع الطبقات. ويؤكد عبدالقادر أن المسألة ليست ثقافة فقط بل وأيضا مرابح، فنحن بصراحة نربح من تسويق الثقافة، لدينا الآن قائمة طويلة من الراغبين بإقامة حفلات ثقافية في المقهى، منها أمسيات ومنها توقيع كتب وغير ذلك من الأنشطة، واستضفنا عددا من الكتاب منهم ثامر الميمان والدكتور عدنان اليافي. ويعتقد الشاعر أحمد قران الزهراني أن أية إضافة ثقافية هي في نهاية المطاف خدمة للثقافة بشكل أو بآخر، وظاهرة المقاهي الثقافية هي ظاهرة إيجابية، سيكون لها دور كبير في خدمة الثقافة المحلية شريطة الاستمرارية وفق برنامج ثقافي مخطط له، بعيدا عن رهانات الكسب والخسارة، وسوف تكون رافدا مهما للأندية الأدبية، ولا يرى قران أن هناك اختلافاً بين جمهور المقاهي وجمهور الأندية فجمهور هذه المقاهي ومرتادوها ربما هم أنفسهم رواد الأندية الأدبية، ولا يعتقد أن الشباب يفضلون المقهى على النادي، غير أن المقهى له دور في التأثير على الحراك الثقافي في أي مكان في العالم، وهذه الظاهرة تأخرت في بلادنا كثيراً، وأعتقد أن الاهتمام بها سيتزايد مع الوقت، ولو خيرت بين المقهى والنادي فهما سواء، المهم لدي هو الشعر والثقافة.