يكافح المصريون منذ الإطاحة بالرئيس حسني مبارك لتقبّل فكرة أن المنافسة السياسية الديموقراطية هي التي يجب أن تحدّد مستقبل مصر، وليس الشارع والمحاكم المُسيَّسة والجيش. ويبدو أن البلد يقترب أكثر فأكثر من السياسة الطبيعية، وأن العلمانيين سيضطرّون إلى التنافس مباشرة مع الإسلاميين لكسب الدعم الشعبي، كي يصلوا إلى السُلطة أو يصبحوا معارضة سياسية قادرة على البقاء. ويقول تقرير نشرته "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي" في أكتوبر الماضي أن الإسلاميين حققوا فوزاً حاسماً في الانتخابات البرلمانية، غير أن المحكمة الدستورية العليا قضت بأن قانون الانتخابات غير دستوري وحلّت البرلمان. احتفظ الجيش بالسلطة بحزم، إلى أن انسحب فجأة في 12 أغسطس. كما أصبحت المحاكم أكثر تردداً في إصدار القرارات المثيرة للجدل. ومع أن العلمانيين والإسلاميين لا يزالون يلجؤون إلى الشارع للضغط من أجل تحقيق مطالبهم، أصبح تنظيم الاحتجاجات أكثر صعوبة وخطورة، حيث يتكرّر العنف على نحو متزايد بين العلمانيين والإسلاميين، ويخسر الجانبان نتيجة لذلك. جماعة الإخوان المسلمين أكثر قبولاً للسياسة الطبيعية من الأحزاب العلمانية، لأن العملية السياسية رجَّحت كفَّتهم حتى الآن. أما الأحزاب العلمانية فتسخر من هذه الانتصارات وتعتبرها نتيجة لمكائد من جانب "أقلية منظَّمة" وليست مؤشِّراً على دعم شعبي حقيقي. التهرُّب من السياسة الطبيعية بدأت المواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين علانية بعد سقوط مبارك في مارس 2011، عندما دعا المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى إجراء استفتاء على مجموعة من المواد المعدّلة من دستور عام 1971. فحثَّ الإسلاميون أتباعهم على الموافقة على التعديلات، في حين عارضها العلمانيون، لأن الموافقة عليها من شأنها أن تمهِّد الطريق أمام إجراء انتخابات مُبكِّرة تكون الأفضلية فيها للإسلاميين الأفضل تنظيماً. المجلس العسكري والمحاكم رحّب المصريون في البداية باستيلاء المجلس العسكري على مهام الإدارة كإجراء موقت، ولكن عندما امتدّت العملية الانتقالية لأشهر عدة برزت الأسئلة حول ما إذا كان الجيش يدرك أن دوره موقت، أم إذا كانت مصر قد استبدلت نظاماً استبدادياً بواجهة مدنية بنظام عسكري استبدادي مثله. ومع نهاية فبراير 2012، افتتح مجلسا الشعب والشورى، وفي مارس انتخب المجلسان جمعية تأسيسية من 100 عضو. لكن الإسلاميين كانوا يسيطرون على البرلمان، ولذا كانت غالبية أعضاء الجمعية التأسيسية أيضاً من الإسلاميين. لجأ العلمانيون إلى المحاكم فألغت نتيجة الانتخابات، وأدّى ذلك إلى عكس التقدّم نحو السياسة الطبيعية، ما حدا بالمجلس العسكري إلى استعادة السيطرة وجعل العديد من المصريين يخشون من أن الجيش يريد البقاء في السلطة. شُكِّلت جمعية تأسيسية جديدة في 8 يونيو بعد مفاوضات كثيرة بين القوى السياسية، لكن جرى التشكيك مرة أخرى في شرعيتها، لأن البرلمان كان قد انتخب بعض أعضائه لعضوية الجمعية. سياسياً، أُضعِفت مكانة الجمعية التأسيسية الجديدة أيضاً بقرار من المحكمة العليا الدستورية، التي أعلنت في 14 يونيو أن قانون الانتخابات البرلمانية غير دستوري، الأمر الذي أدّى إلى حل مجلس النواب في 16 يونيو. بعد ذلك فاز محمد مرسي في الانتخابات بفارق بسيط وقَبِل المجلس العسكري انتصاره. وفي 30 يونيو، نُصِّب مرسي رئيساً، الأمر الذي أثار الذعر لدى كثير من المصريين. وفي 12 أغسطس، أعلن الرئيس مرسي إحالة رئيس المجلس العسكري وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي إلى التقاعد، وحلّ محلّه اللواء عبدالفتاح سعيد السيسي. وفي اليوم نفسه، ألغى مرسي الإعلان التكميلي للإعلان الدستوري الصادر عن المجلس العسكري في 17 يونيو، فاستعاد كامل الصلاحيات الرئاسية. كما تولَّى السُلطة التشريعية إلى حين انتخاب البرلمان الجديد، وكذلك سُلطة تعيين جمعية تأسيسية جديدة إذا فشلت الجمعية الحالية في عملها. وقد وافق المجلس العسكري على التعيينات الجديدة وعلى فقدان السيطرة الحصرية على جميع الأمور العسكرية. تحالفات الجميع ضد الجميع لا يبدو أن المنظمات العلمانية على استعداد لمواجهة التحدّي المتمثّل في السياسة الطبيعية، ويعود ذلك إلى سببين رئيسيْن: الظروف الهيكلية، حيث تسيطر على الأحزاب العلمانية نخبة ذات علاقات ضعيفة مع عامة الناس؛ والخيارات السياسية، حيث لم تبذل هذه الأحزاب جهوداً كبيرة منذ سقوط مبارك لتأسيس تنظيمات سياسية تحتاجها كي تنافس في الانتخابات، بل ركَّزت بدلاً من ذلك على التأثير على المحاكم والمجلس العسكري للحدِّ من صعود الإسلاميين. ويصعب التصدي للأسباب الهيكلية نظراً إلى أنها تضرب بجذورها في طبيعة المجتمع المصري. أما نقاط الضعف السياسية فهي ذاتيّة إلى حدّ كبير، ويمكن تصحيحها بسهولة نسبية، وإن كان من غير المرجَّح أن يحدث هذا الأمر. بشكل عام، لا تكاد الأحزاب العلمانية تحرز تقدُّماً يذكر في مجال توحيد صفوفها وتنظيم نفسها. ويجب أن تجتاز الأحزاب العلمانية ثلاث خطوات كي تصبح فعَّالة: الاتفاق على برنامج ورسالة مشتركة، وتشكيل تحالف انتخابي، وأخيراً الاندماج في حزب واحد. غير أن تلك الأحزاب بدأت بالكاد تتعاطى مع الخطوة الأولى. وبدلاً من ذلك، هي لا تزال تمارس لعبة الجميع ضد الجميع في لعبة التحالفات.