هل بقي شيءٌ تُقدمه خشبةُ المسرح، تلك التي تَحبس الناسَ في مكانٍ ضيّقٍ لتُلقِي عليهم شيئًا ما...!؟ الناس مشارب في بحثهم عن جوابٍ لهذا السؤال؛ لكنَّ الكل يَعرف أنَّ المَسرحَ -بوصفه أبًا للفنون- ميّت. إذن عندما ماتَ الأبُ وصار الناس يتحركون بالعالم الرقمي، فما للوعي والعودُ للمسرح؟ هل هو نوع من الحنين للإبقاء على أثرٍ من آثار الأب؟ أم أنَّ مُحبّيه يرفضون موتَه؟ أم هو نوع من الطاقةِ المتخيلة في تقليدِ التَمسرح العفوي فِي كلِ مكان؟، وربما أنَّ رافضي موت المسرح يَعيشون طقسًا مسرحيًا، وينتظرون الإفاقة. الخشبةُ بهذا المعنى الميّت هي التي تُريد سَجنَ الناسِ بعد أن انطلقوا لا تَسعهم الحياة، يتمسرحون بلا قيود، يرقصون كزوربا، ويحبون الحدثَ المسرحي الذي يقع معهم؛ فهم يعشقون ما يَنبض بهم ويَنبضون به. وما موتُ الخشبة إلا كموتِ لغةٍ بقيت على أجهزة التنفس الأكاديمي فلم تبلغ حَدّ الانقراض؛ لهذا أتذكّر حين ضحكتُ مع صديقٍ مسرحيّ ونحن ذاهبان إلى السينما قلتُ له: هل هذه خيانة للمسرح؟، قال: «الخيانة ألا تَخون هذه الخشبة المملة». فلا أدري هل خطوات (المتخشّبين) تُحاوِل تَخليدَ المسرح لكنّها -في الآن نفسه- تنزع عنه أجهزةَ التنفس فتميتُه كما أماتت الطقوسُ الجسدية التصوفَ الروحي، وكما ماتت مسارح الفراعنةِ، ونامت خيالاتُ الظِل في مَسالِك الدمى المتحركة؟. وهل بقاؤه بعد الموتِ كبقاءِ الذاكرةِ تَحفر وتُغيّر في مسارات الحياة لكن بلا آثار مادية؟ المسرح بصورتِه الجذريّة كالعودةِ إلى أولِ الحياة؛ فحين نَستذكر محاورات سقراط -بوصفها مسرحية- في وسطِ مجتمعٍ يَضجّ بالحياةِ، سنجدها محاورات تُحاول أن تَكتَشِف ذاتَها فحسب؛ أو تُنشِئ أسئلةً ليست في لغةِ الناس التداوليّة، وهذا ما يُمكِن تسميتُه بنفي إرادةِ الحياة، لأنَّ الأسئلةَ تَبدأ من مؤلفي المسرحية وتعود إليهم، وهذا ما يَجري في جذورِ المسرح. ألا يُذَكّرنا هذا بمفهوم (الحقيقة) ذلك المفهوم الذي نَزعم كذبًا أنه خارج تفاعلاتنا الجسدية؟ هل من هنا جاءت المقولةُ القديمة الميتة: (أعطني مَسْرحًا أُعطيكَ شَعبًا مُثقفًا)؟ إن كانَ؛ فهو-إذن-عبارة عن مكانٍ للبحثِ عن الحقيقةِ المفارقة؛ التي لا تَهم الناس، لأنها خارج حياتهم. مشكلة المسرح أنَّ (الذاتَ) المتخشّبة تَتمرّد على السياق؛ لتعيش شكوكَها الخاصّة المتعلقة بالحقيقة، وربما هذا سبب وجودِ لفظةِ المبادئ التي دعا إليها المسرح، ورأى وجوب تعلمها. ثم ألا نتذكر هنا نظرية المحاكاة عند أرسطو؟ تلك النظرية التي جعلت من الفنِ وسيلة لإيضاح الميتافيزيقا فحسب! ولا دور للمسرحي إلا أن يُتِمّ ما قَصّرت به الطبيعة. فلو رأينا -مثلًا-مسرحيةَ (أوديب ملكًا) نجدها تقول لنا ما يُمكِن أن يَحدث لأيّ شخصٍ يُشبِه أوديب بكلِّ شيء حتى الظروف. ماذا يعني هذا؟ قَد يَعني زرع اليقين بأنَّ التجاربَ المتنوعة يُمكِن أن تُحصَر في قوالب ضمن مفهوم (الإنسان) ليس إلا. وهذا الأمر يُشبِه ما جَرى لابنِ رشد حين وَجد أنَّ الشِعر اليوناني يَختلف عن الشِعر العربي فقال: «إنَّ شِعرَ العربِ خارج عن الطبيعي»؛ لأنَّ ابنَ رشدٍ لو قال: «إنَّ أرسطو يَتحدث فقط عن الشعر اليوناني» لنَقضَ أفكار أرسطو الأساسيّة! لهذا ظلَّ وفيًا لأستاذِه أرسطو، ولو على حسابِ منطقِ الحياة. هذا المنطق الذي جعلَ المسرحَ الكلاسيكي يَستبدل وقائعَ الحياة بالأسطورة، ليخطو أولَ خطوةٍ لجعل المسرح والحياة شيئًا واحدًا، لكنَّه مع هذه الخطوة صَنعَ مشكلة أخرى، وهي تحويل الذات المتخشبة إلى طبقةٍ متخشبة!، ثم استمرت الخشبةُ تتخبّط بالمسرحيين من عصرٍ إلى عصر، حتى مسختهم لكائنات تأتي إلى الخشبة لتُفرّغ عنفَها الذاتي فحسب، إلى أن صارت الخشبةُ ميدانًا لما بعد الدراما، تلك التي أدخلت الشعبَ على الخشبةِ بوصفهم ممثلين بلا تمثيل، أو جَوقةً للمؤدي الذي حَلَّ محلَّ الممثل في المسرح الكلاسيكي. وظلَّ المسرحيُّ الذي يُمَثّل حَدّ الشغف لا يحب المسرح. التفاتة: قد تعني الخشبةُ في مرحلةِ ما بعد الدراما، أنَّ المشاهد قد تحوّل من متلقٍ صامت، إلى أن يُشارك في عمليةِ الإصماتِ الجماعية! إذ صار الخطاب الخَشبي يحكم الكل.