من ضمن تفرّعات التخصّصات الدراسيّة الجامعيّة في إيطاليا، أطلّ في العشريّة الأخيرة من الألفيّة الميلاديّة الثانية مسمّى "الاستعراب" (arabismo)، بمدلولٍ اقتصرَ على فئةِ المَعنييّن بدراسة وتدريس العربيّة وآدابها حصراً، وهو ما لم تخض القواميس الإيطاليّة في تفصيلاته كثيراً، حتّى وإن تحدّر كثيرٌ من هؤلاء "المُستعرِبين" في تكوينهم من مشارب دراسيّة متنوّعة: دينيّة، أو اجتماعيّة، أو مجالاتٍ ذات صلة بالمخطوطات والفنون العربيّة أو غيرها من التفرّعات المُنضوية تحت الدراسات الشرقيّة عموماً. ولم تَشمل فئةُ المُستعرِبين الأساتذةَ والباحثين والدّارسين من مختلف التخصّصات الأخرى، المُشتغلين بالثقافة العربيّة والمجتمعات العربيّة والتاريخ العربيّ، مثل عُلماء الاجتماع، والمؤرّخين، وخبراء القانون الإسلاميّ، وعلماء الآثار، ومتتبّعي سائر الفنون والعلوم وغيرهم. وعادةً ما يُعرِّف المستعرِبون عن أنفسِهم، كونهم شريحة علميّة مُتجاوزة للاستشراق التقليديّ (المورَّط في زعْزَعة ثقافات، والإسهام في تكبيل شعوب، والتحكُّم بمصائر مُجتمعات)، ويسعون في تمييز أنفسهم - كلّما سنحت الفرصة- باستحضار الوجه السلبيّ للاستشراق، والزّعم أنّهم بصدد التجريب والاشتغال على تجاوُز سقطاته. وليس رمياً بتُهمٍ باطلة، ولكن استرجاعاً لوقائع حاصلة، أنّ الفترة التاريخيّة التي نشطَ فيها الاستشراقُ أمْلَت على كثيرين منهم أن يعملوا مُخبِرين ومُستشارين وموظّفين سياسيّين في مؤسّسات كولونياليّة وفاشيّة وإمبرياليّة (أنظر بشأن تورُّط المدرسة الأنثروبولوجيّة مع المُستعمِر الفرنسي كتابَ الفرنسي جان لو آمسال: "إسلام الأفارِقة.. النّزوع للتصوّف" - منشورات ميلتيمي، ميلان، 2018). والبيِّن أنّ مَولد الاستعراب الإيطاليّ قد أطلّ منذ تسعينيّات القرن الفائت، وبما لا يعني انتفاء تدريس ودراسة العربيّة وآدابها قبل ذلك التاريخ في إيطاليا، ولكن، بدايات التفرّع الجديد - أو إن شئنا- التمرّد على الآباء والسعي لبناء هويّة أكاديميّة جديدة. فقد خرجَ روّادُ الاستعراب في إيطاليا من عباءة المُستشرِقين، تعلّموا على أياديهم وخَبروا أفكارهم ثمّ انشقّوا عنهم. وقَبل التسعينيّات كانت دراسات العربيّة وآدابها في الجامعة الإيطاليّة قليلة العدد ضئيلة الأثر. توزّعت بين أربعة أو خمسة مراكز رئيسة: في مُدن بولونياوروما ونابولي وباليرمو، إلى جانب مؤسّسات تابعة إلى حاضرة الفاتيكان موجودة في روما مثل "المعهد البابوي للدراسات العربيّة الإسلاميّة" الذي انتقل مقرّه من تونس إلى روما سنة 1964، وكذلك "المعهد البابوي الشرقي" في روما أيضاً. ويمثُل المَعهدان قطباً على حدة يتبع حاضرة الفاتيكان والمؤسّسات التعليميّة البابويّة. في حين أنّ الاشتغال الأهمّ للأبحاث والدراسات والكتابة بخصوص الشرق كان يجري في أحضان مركزَيْن، شبه حكوميَّيْن، تأسّسا وتطوّرا منذ عقودٍ سابقة، مع بروز حاجة النظام الفاشي للتشوُّف نحو إفريقيا والعالَم العربي، وهُما "المعهد الإيطالي لإفريقيا والشرق" (Isiao) و"معهد الشرق كارلو ألفونسو نللينو" (Ipocan). ففي هاتيْن المؤسّستَيْن جرى التركيز على دراسة اللّهجات العربيّة، وبداية إعداد القواميس العربيّة، وكُتب النحو، وأنطولوجيّات الأدب والشعر العربيَّيْن، هذا فضلاً عن تقديم المشورة السياسيّة والمعرفيّة لمختلف الأنظمة والحكومات المُتعاقبة التي شهدتها إيطاليا منذ مطلع القرن الفائت تقريباً. وإن كان المعهد الأوّل قد توارى منذ ما يزيد على العقد، فقد ظلّ المعهد الثاني بؤرةً علميّة نشيطة إلى اليوم بخصوص الثقافة العربيّة ورصْد مساراتها. جيل التمرُّد سنُحاول تلمُّس ملامح الاستعراب الإيطالي مع مَن أطلقنا عليه جيل التمرُّد أو الانسلاخ عن الآباء المُستشرِقين، وهو جيل المُستعرِبين الذي أطلَّ برأسه منذ ما يزيد على ثلاثة عقود كما ألمحنا. ولعلّ من أبرز أعلامه الراحلين أنجيلو أريولي، وألبيرتو فِنْتورا، وفريال باريزي، وأغوسطينو شيلاردو، في حين نَجد ثلّةً أخرى داهمها التقاعُد الإداري، لكنّها لا تزال حثيثة النشاط، منهم إيزابيلّا كاميرا دافليتو، وفرانشيسكا كوراو، ووسيم دهمش، وأنطونينو بلليتاري، وبرتولوميو بيرونه وآخرون، وقد سلَّموا المشعل لجيلٍ لاحقٍ من المُستعربين وفير العدد مُقارنةً بالسابقين، نذكر من بينهم أبرز الناشطين في التأليف والترجمة من العربيّة والتدريس في الجامعة: ماريا أفينو، ومونيكا روكّو، وديانا إِلفيرا، وباولا فيفياني، وألمى سالم، وكلاوديا ماريا تريسو، وآده باربارو، وآريانه دوتونه رامباخ، وفرانشيسكو ليجيو، وسيمونِه سيبيليو، وأرتورو موناكو. غير أنّ جيل الروّاد المُشار إليه آنفاً - الأموات منهم والأحياء- هُم في واقع الأمر أنصاف متمرّدين في المَنهج والنَّظر، لم يصلوا إلى حدّ "قتل الآباء" بالمفهوم الفرويدي. كان موقفهم الانفصالي مجرّد عقوق لم يَرْمِ بجذورٍ صلبة في تربةٍ جديدة، فقد تجاذَبت كثراً منهم ميولاتٌ كَنَسيّة، ويمينيّة محافظة، ناهيك بنزوعٍ يساري إيديولوجي، جَعَلَ مَسارَهم الاستعرابي مُشتَّتاً. لكنّ دور ذلك الجيل يظلّ عظيم الأثر، في العمل على توسيع رقعة انتشار العربيّة ودراستها في كثير من أرجاء إيطاليا، وإن لم تبتعد بيداغوجيا التدريس ومضامين البرامج كثيراً عمّا سطَّره السلف السابق من جيل المُستشرقين. فقد ظلَّ مَنهج تدريس العربيّة بالإيطاليّة أساساً، أي اعتماد الإيطاليّة في تدريس بنية اللّغة العربيّة ونحوها للطلّاب، وبالمِثل تدريس مُنتخبات الأدب العربي باعتماد الشرح والتحليل بالإيطاليّة. ظلَّ تدريس العربيّة وآدابها بمثابة تدريس لغة ميّتة. ناهيك بما يأتيه أساتذة مع طلّابٍ إيطالييّن مُبتدئين برميهم في "أتون" المعلّقات، والشعر الجاهلي، ومقامات الحريري، بدعوى الاطّلاع على منابع العربيّة والتدرُّب على اللّغة النقيّة، وما يخلّفه ذلك من نفورٍ أو غَرَقٍ عموديّ فيلولوجيّ في اللّغة، قلّة تخرج منه مُعافاة. وما يصحب ذلك من ترويجِ أساطير عن صعوبة العربيّة، وابتكار أساليب واهية في تعليمها وتعلّمها بحفْظ قوالب عن ظهر قلب، بدعوى تَيسير نُطْقِها على غرار: "يُغرغِر الغِرغِر غرغرة الغرور" و"خيطُ حريرٍ على حائطِ خليلٍ" و "قُمْ يَا مُتَقَمْقِم، قُمْ فتَقَمْقَمْ، قُم قَمْقِم قَمْحاتِكَ"، وغيرها من أساليب الاستشراق البالية في التعليم. والإشكال في الدراسات الشرقيّة في إيطاليا - ولاسيّما بشأن اللّغات الشرقيّة- عائدٌ إلى خَلَلٍ بنيوي، وإلى توارُثِ بيداغوجيا تعلُّم وتعليم تنطوي على العديد من النقائص من دون العمل بجديّة على تجاوُزِها. فقد خبرتُ كثيراً من المُستعرِبين من الجيل الأوّل عن قرب، وكنتُ أَلمس عجزَهم عن إجراء مُحادثة، أو الإدلاء بمُحاورة بالعربيّة، أو كتابة نصّ، أو الاطّلاع على صحيفة سوى بتأبُّطِ القاموس، مع أنّ كثيراً منهم كانوا يُلقَّبون ب "البروفيسور" و"البروفيسورة" في اللّغة والآداب العربيّة. ومُذ كنتُ طالباً في جامعة القدّيس توما الأكويني، كنت أمدّ يدَ العون لكثيرٍ من المُستعرِبين والمُستعرِبات في شرح النصوص العربيّة، أو ترجمة ما ينبغي أن يُترجَم من الإيطاليّة إلى العربيّة.. أو العكس، أو في تدبيج مُداخلاتهم، وخصوصاً تلك التي يشاركون بها في مُلتقياتٍ وندواتٍ في البلدان العربيّة، وإلّا تحوَّل ادّعاءُ تدريس اللّغة الفصيحة إلى فضيحة. ما الذي يُميِّز المُستشرِق عن المُستعرِب؟ من جانبٍ آخر، وجرّاء النقص الفادح لحضور الثقافة العربيّة في إيطاليا، واقتحام جيل المُستعرِبين الأوائل النشاطَ البحثيّ والتدريسيّ والمُشاركة في ندوات ومُلتقيات في إيطاليا وخارجها – على الرّغم من النقائص-، بدأتِ الأنظارُ تشرئبّ نحو العربيّة وأهلها، وقد أذكى ذلك الانجذابَ حضورُ المُهاجِر "المَارُوكِينو"، أي العربيّ، الشرعيّ وغير الشرعيّ، في الفضاء العموميّ وفي سوق العمل. كما تلاحَقت أحداثٌ سياسيّة واجتماعيّة هزَّت العالَمَيْن العربي والإسلامي، أَسهمت في إيلاء الدراسات العربيّة اهتماماً. أذكر أنّه في السنة التي شهدَ فيها العالَمُ أحداثَ الحادي عشر من سبتمبر 2001 تضاعَفَ عددُ الطلّاب في قسم الدراسات العربيّة لدينا في جامعة "الأورينتالي" في نابولي، وكذلك في "معهد إيسياو" في روما، وكأنّ إيطاليا مع ذلك الحدث اكتشفتِ العالَمَ العربي للتوّ. ولهذا لم تتطوّر اللّغةُ العربيّة في إيطاليا مع المُستشرِقين، ولا مع المُبشّرين، على مدى عهودٍ سابقة، ولكنْ مع طائفة المُستعرِبين، حديثي المَنشأ حثيثي النشاط. فبفضل المُستعرِب باتَ انتشارُ العربيّة وآدابها حاضراً تقريباً في مُجمل الجامعات الإيطاليّة الكبرى من شمالها إلى جنوبها، وقد أَحصيتُ ستّاً وثلاثين نقطة جامعيّة ومَعهداً عالياً تُقدَّم فيها دراسةٌ على صلةٍ بالعرب ولغتهم. والسؤال الذي يَعنينا بالأساس بعد حديث المنشأ، ما الذي يميّز المُستشرِق عن المُستعرِب؟ لقد كان المُستشرِق في ما مضى مسكوناً بنَهَمِ الْتهام الشرق على اتّساع خارطته وتنوُّع شعوبه. يَمرح ويَرتع من الصين إلى اليابان إلى الهند إلى بلاد فارس، إلى عالَمٍ عربيّ مُترامي الأطراف، ليجوسَ خلال ثقافات ولغات وشعوب. بما يستبطنه ذلك من اختزالٍ في الأحكام وازدراءٍ للفروقات، ولذلك غالباً ما خانتِ المُستشرِقَ موسوعيّتُه المُختالة. وإن كان كثيراً من هؤلاء المُستشرِقين يمرحون في الشرق الرحب على الورق، ويوهمون القارئَ الشرقيَّ والغربيَّ بأنّهم خبراء ميدانيّون، ومتمكّنون من لغاتِ شعوبٍ عدّة، ويُسهِم المَشارقة أنفسهم في ترويجِ تلك الأساطير وبثّها بين الناس. لكنّ المُستعرِبَ الإيطالي نَشأ في أجواءِ "تصفية إرث المُستعمِر" (decolonizzazione)، وتراجُعِ النفوذ الكنسيّ، واجتياحِ المنظور النقديّ والتفكيكيّ للدراسات الجامعيّة، ومُناصرة قضايا العالَم الثالث، كلّ تلك العوامل وغيرها أَسهمت في خلْقِ المُستعرِب المَرح. وهو ما أملى اتّخاذ مسافة من الرأسماليّة، ومن الفاشيّة، ومن العنصريّة، والاقتراب أكثر من قضايا عالَم الجنوب لتفهُّم الأمر كما هو. والأمر لا يعني أنَّ المستعرِب تحرّر كليّاً من إرث الماضي وبات أكاديميّاً "عضويّاً" في خياراته، وطليقاً في توجّهاته. ولا يعني كذلك أنّ المُستعرِبَ أضحى تكوينه أكثر متانةً من المُستشرِق، ولكنّ ما حصلَ من تطوُّرٍ ملحوظ، هو أنّ المُستعرِب أصبح أقرب إلى المعيش العربيّ (في وجهه الأدبي منه بالخصوص) واللّسان العربيّ. فقد كان اشتغالُ المُستشرِق يغلب عليه الطّابع الوظيفيّ الصارم، في حين تقلَّصَ ذلك الطّابع الوظيفيّ مع المُستعرِب، وبدأ المَيل نحو المنحى المعرفيّ نتيجة المُراجعات الحاصلة، وجرّاء مَوجات ما بعد الاستشراق المُتلاطِمة التي خلَّفها إدوارد سعيد وأتباعه. ومع المُستعرِبين تخلَّصت الدراساتُ العربيّة من فئة المُستشرِقين الذين يدرسون كلّ شيء: اللّغة والأدب والنحو وعِلم الفَلَك والمخطوطات والسياسة والدّين، وبات الانهماكُ على حقلٍ بعينه، لغوي وأدبي، هو العلامة الأبرز. فحين وصلتُ إلى إيطاليا في تسعينيّات القرن الماضي، عايشْتُ في أثناء الدراسة الجامعيّة وبدايات التدريس أواخرَ جيل المُستشرِقين الإيطاليّين والمُبشِّرين (من أساتذة الجامعات البابويّة)، كنتُ أَلمس الحدّةَ والصرامةَ في التعامُلِ مع الشرق، المُدْرَج من ضمن خانة "نحن" و"هُم"، والقوالب الجامدة التي يتحرّكون في داخلها، والأحكام القاطعة التي تُميِّز رؤاهم نحو العرب والثقافة العربيّة. مع جيل المُستعرِبين أشعر بالتراجُع الكبير لتلك الأجواء الصارمة والأحكام الجازمة. ناهيك بمعطىً واقعيّ آخر رافَقَ تطوُّرَ الاستعراب، أنّ جلّ عناصر هذا التوجُّه بِتْنَ من النساء، بعدما كان العنصر الذكوريّ هو الغالب على حقلِ الاستشراق. وسواء في جامعة "الأورينتالي" في نابولي حيث درّستُ، أم في جامعة روما حيث أدرِّس الآن، أمزحُ أحياناً مع طالباتي، وأتساءل: أين فرّ أحفاد المُستشرِقين من جنس الذكور؟ نظراً إلى غلبة العنصر النسوي في الفصل. *أستاذ من تونس في جامعة روما- إيطاليا * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية