لا تزال مجزرة الكلية الحربية في حمص «لغزاً» أمنياً، بوجود علامات استفهام كثيرة، في الداخل كما في الخارج، حول رواية النظام عن الحادث. قليلة جداً العواصم التي أبدت استنكاراً أو تعزية، مع أن طبيعة الحدث تستوجب رد فعل إنسانيا بمعزل عن الاعتبارات السياسية، ما يشير إما إلى تشكيك بالمعلومات العاجلة التي قدمتها دمشق أو إلى توفر معلومات مضادة وتحليلات عسكرية تنقض فرضية أن «التنظيمات الإرهابية المعروفة» مسؤولة عن المقتلة. إذ إن مواقع هذه التنظيمات معروفة على الخريطة، ومعروف أيضاً ما تملكه من أسلحة وطائرات مسيرة، كما أن أجهزة عديدة للروس والإيرانيين والنظام وآخرين ترصد تحركاتها وتسجلها. غير أن كل وسائط الرصد لم تستطع التقاط تحليق طائرات مسيرة في اتجاه حمص حيث يحتفل بتخريج دفعة جديدة من الضباط في حضور ذويهم، مع أن تدابير خاصة تتخذ عادة ل«حماية» مثل هذه المناسبات. لم يُظهر النظام ولو بداية «تحقيق» للتأكد من أي تنظيم إرهابي ارتكب هذه المجزرة، ومع أن وزارة دفاع النظام أعلنت أن الهجوم تم بمسيرة أو أكثر إلا أن المعلومات المتداولة أخيراً تدعو إلى التفكير في سيناريوات أخرى. لكن حتى لو اعتمدت رواية المسيّرات فإن كثيراً من الحجج العسكرية البحتة ينقضها، وأهمها أن التنظيمات الإرهابية («داعش»، «النصرة»، فصائل موالية ل«القاعدة»...) لا تملك مسيّرة كالتي يفترض أنها استُخدمت، ولا يمكن أن تشن هجوماً بمثل الثقة والوقت المريح اللذين ميزا تلك المقتلة المروعة. بدا للعديد من الخبراء العسكريين كأن هناك «غرفة عمليات» تدير الهجوم، وإذ اجتهد الخبراء في قياس الإمكانات الجغرافية المتاحة للجهة المهاجمة فإنهم استنتجوا في نهاية المطاف أن المسيّرات القاتلة جاءت من موقع قريب ولم تكن مضطرة لقطع مسافة طويلة. يعني ذلك أنها أطلقت من أحد المطارات التي يسيطر عليها النظام أو حلفاؤه الإيرانيون. كان لافتاً ذلك الخبر الذي بثه «مركز المصالحة الروسي» في سوريا، قبل ساعات من المجزرة، بأن «جماعات إرهابية (ناشطة في محافظات إدلب وحلب واللاذقية)» تستعد لشن هجمات على قواعد عسكرية وسورية «عبر استخدام طائرات مسيرة محلية الصنع». وسمى نائب رئيس المركز الأدميرال فاديم كوليت جماعتي «الحزب الإسلامي التركستاني» و«أنصار التوحيد»، وقال إنهما ستستخدمان «أنظمة إطلاق صواريخ متعددة طويلة المدى»- وليس مسيرات- لكن الأدميرال لم يعد لاحقاً، بعد المجزرة، لتوضيح ما كان يعنيه وما نسبه إلى «تقارير استخبارية حصل عليها»، أو لشرح أسباب عدم فاعلية «الإجراءات الاستباقية اللازمة» التي قال إنّ «قيادة المجموعة الروسية والقوات المسلحة السورية ستتخذها لمنع الاستفزازات المسلحة للإرهابيين»... وهناك احتمالان، فإما أن هذا المسؤول الروسي أراد التضليل، أو أنه أساء استخدام تصريحات لرئيس الاستخبارات الروسية سيرغي ناريشكين اتهم فيها الولاياتالمتحدة بأنها «تُعد لمساعدة مسلحين في تنفيذ هجمات إرهابية في الأماكن العامة المزدحمة والمؤسسات الحكومية السورية». قد يكون هذا التصريح الروسي أفاد فقط في تغطية الرواية المضلِّلة التي اعتمدها النظام. لم يوضح الجانب الروسي أيضاً أسباب غياب أي ممثلين له في الاحتفال، إذ كانوا يحضرون عادة. أما انسحاب وزير الدفاع ومحافظ حمص وكبار القادة العسكريين على عجل، وقبل انتهاء الاحتفال، فأُعطي تفسيراً ملتبساً، إذ أشار إلى تلقي معلومات عن تحليق مسيّرات في المنطقة، لكن لم يُطلب من الحاضرين أن يسارعوا إلى المغادرة، للأسباب نفسها. كذلك لم يتحدث إعلام النظام عن فتح تحقيق في ما حدث، وليس في السوابق أن يعلن عن أي نتائج فيما لو أجري تحقيق في أي واقعة سابقة. من ذلك مثلاً تفجير مبنى الأمن القومي (يوليو 2012) حيث كانت مجتمعة «خلية الأزمة» وكان بين القتلى آصف شوكت، صهر رئيس النظام، أما شقيقه ماهر، قائد «الفرقة الرابعة»، فكان مفترضاً أن يحضر لكنه تغيّب. لم يُعرف إلى الآن من دبّر ونفّذ ذلك التفجير، أما بيانات إعلان المسؤولية عنه من جهات معارضة للنظام فلم تؤخذ آنذاك بجدّية، لكن ذوي القتلى أبدوا لاحقاً اقتناعاً بأن الإيرانيين وأحد أجنحة النظام كانوا وراء التفجير، وهذا هو المُتداول في الأوساط شديدة القرب من النظام، خصوصاً أنه تزامن مع ازدياد الاعتماد على إيران وميليشياتها ولا سيما «حزب الله» اللبناني في القتال على مختلف الجبهات. بعد ساعات قليلة على مجزرة الضباط في حمص راحت أطراف عديدة تذكّر بتفجير «خلية الأزمة» لتشير عملياً إلى المشتبه بهم أنفسهم (إيران وجناح ماهر الأسد)، مستندة إلى دافعَين أساسيَين: 1) اهتزاز وضع النظام تحديداً في حاضنته الطائفية التي تشهد تشققات، إضافة إلى تجدد الاحتجاجات الشعبية ضدّه في السويداء ودرعا بسبب تردّي الوضع الاقتصادي والمعيشي. و2) شعور إيران بأن ثمة خططاً خارجية قيد الإعداد لإضعاف نفوذها، وهي لا تريد أن تخسر سوريا مهما كانت الأكلاف. لم يُقَل صراحةً في الأنباء أن أكثر من %90 من قتلى مجزرة الضباط كانوا من الطائفة العلوية، لكن ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت، كما كان متوقعاً، عودة اصطفاف علوي وراء النظام وقبول ولو صامت بالحليف الإيراني الذي يدافع عنه. لم ينجح النظام فقط في إعادة شد عصب حاضنته الطائفية، بل تبيّن أن المجزرة كانت جزءاً من خطة مدروسة لتوظيفها، إذ أظهر جاهزية سريعة للانتقال إلى الخطوة التالية حين باشر قصفاً متواصلاً على ريفي إدلب وحلب، فيما راحت أوساطه وأوساط إيران تقول إن «الحرب لم تنتهِ» وإن الوقت حان «لاستعادة الشمال» وإن ما حصل في حمص كان «قلباً للطاولة على المشاريع الأمريكية التي تُعَدّ مع أطراف إقليمية». استخدم النظام المجزرة كرسالة، مفادها أنه لا يزال مستهدفاً من الإرهابيين، وأن ما حصل يمنحه ترخيصاً لاجتياح إدلب أو درعا أو حتى السويداء، فمَن يقمع العلويين بهذه الوحشية لن يتردد في معاقبة أي طرف آخر. بديهي أن يُطرح السؤال: هل يُعقل أن يتواطأ النظام أو يوافق على قتل أبناء طائفته؟ هذا يفترض أن ثمة منطقاً في ممارساته، لكن سوابق كثيرة جعلت السوريين والمتابعين للوضع في سوريا يصدّقون ما لا يمكن تصديقه. ففي المجزرة، كأي جريمة، ضحايا ومستفيدون، وقد عُرفوا بوضوح. وغداة المجزرة كانت هناك مسرحية مسيّرات قيل إنها تستهدف تشييع الضحايا أو الجرحى في أحد المستشفيات، لكنها طُويت سريعاً. في المقابل كانت هناك تظاهرات ولافتات كتب في إحداها «ارتكب النظام مجزرة حمص كي تبقى الطائفية»... * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي» .