هذه هي المقالة السادسة، في بيان «آلية عمل الصحوة اليوم»، وكيف تواصل الصحوية العميقة عملها على رغم الحزم الأمني، والانتباه الشعبي، وارتفاع مستوى الوعي بالوطنية وقضاياها في السعودية، وهذا ناجم بلا ريب، عن مهارة «التضليل» وهي مهارة تبرع فيها الجماعات الحركية المتطرفة، التي تركز انتباه المشهد على منطقة معينة، ثم تفاجأ الجميع بأنها أنجزت واستثمرت في مناطق أخرى لم تخطر على البال، وهذا التوصيف البسيط، بل متناهي البساطة للتضليل، هو عين ما تفعله الجماعة الإرهابية الآن. وهؤلاء يبرعون في عملية التضليل، بما يملكونه من آلة إعلامية ضخمة مدعومة من جهات عدة، ولذلك فإن قياس الصحوة بشكل سطحي وظاهري، يوهم بانتهائها، لكون الناس ترى فقط ما يريد أولئك الحركيون له أن يراه، مما يحدوهم إلى التهوين من أمر الصحوية، فيعتبرونها تنظيماً صامتاً، وثلة متعاطفة، وقيادات قيد الإيقاف والتحقيق والمحاكمة، وهنا مكمن الخطر، وهو ما تحاول الحركية التنظيمية إيهامنا وتضليلنا به. نعم، التنظيم صامت، ولكنه لا يعني أنه لا يعمل. ونعم، هناك ثلة متعاطفة، ولكن لا يعني هذا أنها لا تزداد يوماً بعد يوم. أما مسألة القيادات التنظيمية الموقوفة، والتي يعتقد البعض أنه بإيقافها، تنتهي هذه التنظيمات، فعليه إعادة النظر في رأيه هذا، فهناك صف ثان وثالث وربما رابع. والآلة الإعلامية الإسلاموية تستطيع تضليل الناس لبعض الوقت، بما يكفي لتنفيذ بعض المشاريع، أو تمرير بعض القضايا أو الشخصيات، بفضل خلق حالة أشبه بالحقيقة، وليست هي الحقيقة، ولكون الأكاذيب هشة وتحتاج إلى رعاية مستمرة للإبقاء عليها حية، تعمد تلك الآلة إلى تكثيف عملها بكل وسيلة ممكنة، مما يجعل أكذوبتها أمام سواد كبير من الناس كما لو كانت هي الحقيقة الوحيدة. وحتى نعمق فهمنا للتضليل، فإني أشير إلى أنه حتى يحقق التضليل مغزاه يجب ألا يكون كله كذباً، بل لا بد من أن يحتوي على جزء من الحقيقة لكي يخفي معالم التضليل، فالتضليل هو: عرض جزء من الحقيقة، أو تعمد البناء الخاطئ على حقائق واضحة وثابتة وموثقة للوصول إلى تحقق الهدف من وجود هذا البناء الخاطئ، وهو انحراف بالواقع عن صورته الحقيقية، فلكي ينطلي التضليل، وتحبك قصته فلا بد من وجود قدر ولو ضئيل من الحقيقة فيه. قدمت بهذه المقدمة عن «التضليل»، لأبين كيف تناولت الاستبانة ونتائجها، أكبر شريحة مستهدفة من «التضليل»، وهم من يطلق عليهم الصحويون «العامة»، وهم السواد الأعظم، والمادة الحقيقية لبقاء الإسلام السياسي أو اندثاره وانتهائه، وكل جهود وأعمال ومشاريع الحركات الإسلاموية منصبة على كسب أكبر مساحة من هذا السواد البشري، وهم من يمكن أن نطلق عليهم الصحوية المفرطة التي يقوم عملها على الإخلاص المطلق، والولاء التام للفكرة والرمز، بعكس براغماتية القيادات الصحوية. على كل، تركزت أسئلة هذا المحور في الاستبانة، على معنى «العامة» لدى الشريحة المستهدفة، وعن إمكانية استثمار «العامة»، وحول حدود مراعاة العامة في مسائل الشريعة الإسلامية، وفي مسائل الفكر، والقضايا الاجتماعية، وأسئلة حول الاختلاط بالعامة وغشيان مناسباتهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، وهل يكتفى برؤسائهم وشخصياتهم المؤثرة، أم يجب الاهتمام بالجميع؟ ومن خلال ما ذكرته نتائج الاستبانة، نجد أن هناك إجماعاً على أنهم «السواد الأعظم من الناس»، ووصفهم بعضهم بأنهم: «الذين لم يؤتوا حظاً كافياً من العلم، وهم المشغولون بأمورهم الخاصة»، وآخرون وصفوهم بأنهم: «المقلدون لغيرهم في معظم القضايا الفكرية، وليس لهم همة في قيادة غيرهم، بل يؤثرون أن يكونوا تبعاً لغيرهم»، وثالث عرف «العامي» بأنه: «غير المتخصص في علوم الشريعة، ولو كانوا يحمل الشهادات في التخصصات العلمية البحتة»، وأجحف أحدهم بقوله «إن العامي تعني الإمعة، إذا أحسن الناس نحسن وإذا أساؤوا نسيئ، كما يقال مع المصلين إذا صلوا ومع المغنين إذا غنوا». وأخطر ما قيل في نتائج الاستبانة أن: «العامة هم المادة الخام للداعية التي يعمل من خلالها، وجهوده منصبة لأجل نفع هذه الطبقة، لذا كانت الآراء في توسيع القاعدة الشعبية للدعوة، بأن هذا فيه مصلحة للدعوة، لأنه بالصفوة وحدها لا تقوم الأمة الإسلامية، وإن لم تكن الدعوة إلى الله ونشر الخير بين العامة، فأين تكون». ويرى بعضهم ضرورة توسيع القاعدة الشعبية، لإمكانية تحكم القيادات الدعوية في توجيههم، لمصالح عدة، منها: تكثير النصراء والمتحمسين للدفاع عن الإسلام، واستثمار ما لديهم من خير، وحمايتهم من الانجراف وراء تيارات هدامة، وأقرت نتائج الاستبانة بأن «العامة»: «هم المنجم الذي يستخرج منه الطاقات والقيادات، كما أنها هي الفئة التي تحمل الأفكار وتتأثر بها»، ويمكن استثمار هذه القاعدة استثماراً جيداً، إذا تم تحديد قدرات وإمكانات ذوي القدرات منهم، وتوجيههم إلى وسائل النفع في مجالاتهم المتخصصة، إضافة إلى كونهم مؤازرين ومناصرين للدعوة، فهم يستطيعون الخدمة في مجالات متنوعة أكثر من غيرهم، فمن في الإعلام في الإعلام، ومن في الصحافة في الصحافة، ومن في الاقتصاد في الاقتصاد، ولا بد من البناء الفكري المرحلي لأكبر عدد ممكن منهم بحسب قدراتهم. وأمر خطر آخر حينما حددت نتائج الاستبانة فائدة «العامة» «للدعاة»، بالتالي: دعم الدعاة ومناصرتهم. تكثير سواد المسلمين، واستثارة عواطفهم إيجابياً. الضغط على أصحاب القرار. استثمار قدراتهم وتخصصاتهم المختلفة. ويتم ذلك عن طريق بث الوعي المتزن عبر وسائل التأثير المختلفة، وتكوين قيادات مؤثرة، وتعميق الاتصال بهم، ولذلك أكدت نتائج الاستبانة على استثمار «العامة» بإيجاد مشاريع دعوية خدمية تستقطبهم، مثل: المدارس الأهلية، والمراكز الطبية، والكليات، ودوريات الأحياء، وافتتاح نواد لهم كنادي الحاسوب، ونادي الأدباء، وما شابه ذلك. وترى الشريحة المستهدفة من الاستبانة، أنه يجب أن تحصل مشاركة واسعة بين «الدعاة» و«العامة» في أفراحهم وأتراحهم، ولا يجب الاكتفاء برؤوس القوم في المجتمعات المسلمة من أصحاب النفوذ والشخصيات المؤثرة، بل يجب أن يعمل الداعية على المحورين في وقت واحد، غير أن مجموعة كبيرة من الدعاة يرون إعطاء رؤساء القوم قدراً أكبر من الرعاية، لأنه باستصلاحهم يستصلح من هم وراءهم، وإن كان بعض عينات الشريحة المستهدفة من الاستبانة ذكرت أن: «هذه الرؤوس ليست بالضرورة محل ثقة، فلا يمكن الوصول إلى ما عند الخاصة إلا بالولوج إلى أبواب»العامة«، كما أن دعوة علية القوم والوصول إليهم تحتاج إلى جهد وصبر كبيرين، مع ذلك فقد لا يجدي». ويمكن كسب «العامة» بحسب نتائج الاستبانة، بإشراكهم في مشاريع وأعمال، يشعرون من خلالها بأهميتهم، وربما تكون «العامة»، هي أحوج الفئات للاهتمام، ويليها الاهتمام برؤوس القوم، وإن كان يمكن أن يتم الاهتمام «بالعامة» والرؤوس دون أن يؤثر أحدهم على الآخر، وذلك عن طريق تخصيص أشخاص لكل فئة من الفئات، واستعمال الوسائل المناسبة لهم، وللحديث بقية.