حب الوطن والحنين إليه أمر فطري، ليس عند الإنسان فحسب، بل حتى الطيور والإبل ونحوهما، فالطيور تحن إلى أوكارها، والإبل إلى مواطنها، وهكذا الإنسان يحب وطنه ويحن إليه، ولو كُلِّف الإنسان بألا يحب وطنه، لكان ذلك تكليفًا بما لا يُطاق، والشريعة لا تأتي بما لا يُطاق مما يخالف الفطرة. ولهذا فحب الوطن والحنين إليه لا يحتاج في نظري إلى فتوى، لأن حبه أمر فطري، والشريعة لا تجيء بما يخالف الفطرة، ومعلومٌ أنه لا يخالف الفطرة إلا إنسان منعكس الفطرة، أو ذو مآرب سيئة. ولم يسأل أحدُ من الصحابة -رضي الله عنهم- عن حكم حب الوطن، لأن هذا كما قلت متقرر في الفِطر، ولهذا كانوا يعبرون عن هذا الحب والحنين، ومن ذلك قول بلال - رضي الله عنه: (أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً... بوَادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلُ وَهلْ أرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ... وهلْ يَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وطَفِيلُ) فهو -رضي الله عنه- يعبِّر في هذين البيتين عن حنينه إلى موطنه مكة، مع أنها آنذاك ليست بلد إسلام، ويتمنى أن يبيت ولو ليلة واحدة في وادي مكة، ويطفئ أشواقه من مياه مَجَنَّةَ -وهي: ماء عند عكاظ على مسافة يسيرة مِن مكة- وأنْ يُمتع ناظريه بمشاهدة الإذْخِر والجَليلِ، وهما نَبْتَان مِن الكلَأ طَيِّب الرائحة موجودان بمكة، وأن يُشاهد شامةً وطَفِيلًا، وهما جبلان متجاوران جنوب غرب مكة. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبَّر عن هذا الحب لموطنه مكة وقال (لولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجت). ولما استوطن المدينة ورأى الشوق إلى مكة دعا ربه فقال (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ). وقد ذكر العلماء في مصنفاتهم (مشروعية حب الوطن) استنباطا من أحاديث كثيرة، ومنها ما رواه البخاري في صحيحه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع ناقته وإن كان على دابة حركها من حبها). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 621/3: (وفي الحديث دلالةٌ على مشروعية حب الوطن والحنين إليه) أ.ه. أعلم أن هناك أسئلة من قبيل: ما حكم حب الوطن؟ وما حكم اليوم الوطني، وأليس الانتماء الوطني يعارض الانتماء لعامة المسلمين خارج الوطن؟ وأليس الدين يقدم على الوطن؟ وجوابي عن ذلك: أن اليوم الوطني ليس عيدا دينيا، فالأعياد الشرعية هي عيد الفطر، وعيد الأضحى، أما اليوم الوطني فهو مناسبة وطنية دنيوية كغيرها من المناسبات التي يحتفل فيها الناس، فلا دليل على تحريمه، لأن الأصل في العادات الإباحة إلا بدليل. ومعلوم أن حب الوطن لا يتعارض مع حب المسلمين خارج الوطن، كما أن حب الإنسان لوالديه لا يعارض حبه للمسلمين من جيرانه ومعارفه. وها هي دولتنا -وفقها الله- تقف مع جراحات المسلمين، وتغيث الملهوفين والمنكوبين في كل مكان، ولا يتنافى ذلك مع حب الوطن. وترك الإنسان لوطنه لكونه أُخرِج منه، كما أُخرج النبي عليه الصلاة والسلام من وطنه، أو لكونه ممنوعًا من أداء العبادة فيه، لا يعني أنه لا يحب وطنه، مع أن هذه الإيرادات غير واردة في شأن وطنٍ مسلم، فليس هناك أحدٌ يُمنَع من عبادة ربه في وطن الإسلام، وليس هناك أحدٌ يُخرَج منه، بل الواقع أن هناك من أهل الأهواء من يترك بمحض إرادته بلد الإسلام ويرتمي بأحضان أعداء الإسلام وبلادهم، وهذا مما لا نظير له في التاريخ أبدا، لا يُعرَف في التاريخ أن أحدا من الصحابة وتابعيهم بإحسان ترك بلد الإسلام واستوطن عند أعداء الإسلام وبلادهم. والمقصود: أن حب الوطن والحنين إليه أمر مشروع كما ذكر ذلك ابن حجر في شرح صحيح البخاري. وعليه أقول: إذا كانت الفطرة تدل على أن كل إنسان يحن إلى وطنه، فما بالكم إذا كان الوطن هو المملكة العربية السعودية التي هي مهبط الوحي، ومأرز الإيمان، وفيه الحرمان الشريفان والأماكن المقدسة، وولاته آل سعود الذين هم حماة الدين، وأنصار شريعة رب العالمين، وخادمو كلام الله تعالى «القرآن الكريم»، وسنة خير المرسلين، لا ريب أن حب هذا الوطن والقيادة دين وإيمان.