حينما نزل الإنسان من الجنة إلى الأرض، تفاعل معها كي يعيش، وهذا من شأنه أن يخلق نوعا معينا من السلوك، حسب المكان والزمان، فالسلوك ناتج عن التفاعل بين البيئة والإنسان، ظروف المكان والزمان تتحكم ليس فقط في سلوك الإنسان بل في بنيته، ذائقته، على سبيل المثال نجد أن التضاريس تحكمت في النوتة الموسيقية والذائقة السمعية، فلكل منطقة موروثها الموسيقي المختلف. حتى الصفات الشخصية والطباع، وضعت البيئة الجغرافية والمناخية، التي يعيش فيها الإنسان بصمتها عليها، فإنسان الجبل والوادي مختلف عن إنسان السهل والشاطئ، ويختلف عنهم إنسان الصحراء، وهذا ناتج عن تأثير البيئة على الإنسان حيث لابد له أن يتكيف معها ليعيش. كذلك أثرت في قدراته وصحته النفسية والعقلية، حتى في نوع الأمراض الشائعة، فلكل بقعة من الأرض هناك نوع سائد من الأمراض، ولكل فصل من الفصول فيروساته وأمراضه، فالإنفلونزا تنتشر في فصل الشتاء بينما تكثر فيروسات النزلات المعوية في فصل الصيف، وفي الخريف يزداد معدل التهاب الجيوب الأنفية والشعب الهوائية، بينما تزداد التهابات العيون ومعدل حدوث الرمد الربيعي في فصل الربيع. لا يقتصر تأثير الفصول الأربعة في صحتنا البدنية فقط، بل تؤثر تأثيراً كبيراً في صحتنا النفسية ومزاجنا، ليكون مزاجا حارا ومضطربا صيفاً، ومعتدلا لطيفا ربيعاً. ربط كثير من الدراسات العلمية ما بين تغيرات المناخ وتقلبات المزاج، التغيرات تشمل النشاط أيضا، فالنشاط عادة يرتبط بالحالة المزاجية والنفسية، من خلال تأثيرات كهربائية ومغناطيسية كونية، يتفاعل معها الإنسان فتحدث تغيرات بيولوجية في جسمه وعقله. أثبتت الدراسات أن العنف يزداد في الصيف ومع ارتفاع درجات الحرارة، كذلك معدل الجريمة يرتفع، يتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة، انخفاض في قدرة العاملين على العمل بنسبة 50 %، فتقل الإنتاجية، في الجو الحار الرطب يفقد الناس السيطرة على انفعالاتهم وينفد صبرهم سريعاً، كذلك تكثر الاضطرابات النفسية، ويزداد معدل التردد على العيادات النفسية في الأيام الحارة الرطبة، وقدماء المصريين ربطوا الباذنجان بالجنون، وتقدم العلم فعرف الإنسان أن المشكلة ليست في الباذنجان، إنما في الحرارة والرطوبة التي أنضجته، حيث تشتد الحرارة والرطوبة في موسم الباذنجان، فالطقس الذي أنضج الباذنجان، كان كفيلا بإخراج الناس عن طورهم وعقلانيتهم، بالرغم من أنه في البلدان الباردة تزداد نسبة الإصابة بالاكتئاب في فصل الشتاء أو ما نسميه متلازمة اكتئاب الشتاء، وذلك نتيجة انخفاض ضوء الشمس وحلول الظلام مبكراً في فصل الشتاء، ما يؤدي إلى تعطيل الساعة البيولوجية للإنسان، مما يؤثرفي قدرة الدماغ على إنتاج هرموني السيروتونين المسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية، والميلاتونين الذي يساعد على تنظيم النوم والمزاج. وكأن كل شعب له فصوله المختلفة، حيث إن الشتاء في البلدان الباردة غير مرحب به، ويسبب الضيق والاكتئاب بينما يحتفي به سكان المناطق الحارة وتتحسن فيه نفسياتهم، ويضيق سكان البلدان الحارة بحلول فصل الصيف، بينما يعتبر فرصة للتنزه والتخييم في البلدان الباردة. يعتبر الربيع فصلا معتدلا، تتحسن فيه الحالة المزاجية، ربما لزيادة نسبة الأكسجين في الهواء، فينتعش الإنسان ويصفى ذهنه وتتغير حالته النفسية، والخريف أشبه ما يكون بالشتاء من ناحية التغيرات النفسية وتقلب المزاج. لم تكتفِ الفصول الأربعة بالتحكم في صحة الإنسان ونفسيته فقط، بل تحكمت في تكاثره أيضاً حيث وجدت الدراسات أن الخصوبة تقل صيفاً وتزداد شتاءً، فيكثر عدد المواليد في موسم الشتاء. رغم كل التطور الذي وصل له الإنسان، إلا إنه لم يستطع أن يتحرر من تأثير بيئته عليه، لذلك علينا أن نتعامل مع هذه التغيرات كقدر لا مفر منه، دون ضيق أو ضجر.