قد أكون متأخراً في نقاش موضوعي هذا اليوم. لكن الكتابة الأسبوعية دائماً ما تكون ضحيةً للأحداث الطارئة. إذ يجد الكاتب نفسه أسيراً لعامل الوقت والحدث، عكس الصحافة اليومية التي تحول الصحافي إلى راقص تانغو، وهذه أجمل اللحظات للباحث عن الحقيقة المحفوفة بالشقاء. وكوني أحتفظ في ذاكرتي بكثير من هذه الحالة؛ سأقول اليوم أن الأفكار في عالم الصحافة سرقة. أفخمها سرقة "الإلهام" قبل أن يختطفه صحافيٌ آخر. وأجمل الأوقات في الهرولة اليومية عبر أزقة وطرق بلاط صاحبة الجلالة الشائكة والمليئة بالألغام، هي التي تلد بها عناوين، لا تستوعبها إلا صدور الصفحات الأولى. ويتنقل الوقت الجميل إلى مكتب الفني الذي سيقوم بتنفيذ الصفحة الأولى ذلك اليوم. لذا يجتمع حوله الجميع، من رئيس التحرير إلى من يليه، يحملون كثير من المودة له. ومقدمتي هذه، نابعة من أن صحيفة الغارديان البريطانية سجلت أكبر سرقة للحظات الذكية والممتعة، التي تُدون بها العناوين الكبرى، ويتناقلها الباحث عن طرب العنوان، وما يخلّفه. فقد كان عنوانها، في التقرير الذي نشرته حول استقبال سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أواخر شهر رمضان لافتاً؛ بعد أن شبهته ب"لنصر.. أو الفوز"، كما قالت. في الحقيقة لا يمكن أن أنكر أن ذلك التقرير أطربني من عدة نواحِ، أهمها، خسارة رهانات الصحيفة ذاتها حول فشل المشروع السعودي الكبير، ولدى آخرين أكبر وأهم. فمن ناحية وصفها للأمر، وعلى رغم أن رؤيته ك "انتصاراً" جائز، إلا أنني سأختار ما هو أكثر لباقة للحالة التي شكلها التقارب السعودي التركي الأخير، وأعتبره إثباتا جديدا على جدوى سياسة الرصانة والهدوء التي تتعامل وفقها الرياض في علاقاتها مع العالم أجمع. وذلك الهدوء السياسي السعودي الذي قصدت، حقق كثير من النتائج الإيجابية التي لا يتسع المجال لتعديدها. المهم بعد تلك المقدمة أستطيع أن اقول إنه وحتى إن تأخر ذلك التقارب، وانشغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن العنوان العريض للسياسة التركية، وفقاً للوعد الذي أطلقه بعد أن وصل لسدة الرئاسة المبني على "تصفير المشاكل"؛ إلا أنه في شكله ومضمونه خطوة إيجابية، من عدة نواحِ، أهمها، أولاً: انجلاء الضبابية عن مشاريع الرهان التي دخلتها أنقرة في وقتٍ مضى. كالمشروع الإيراني الذي واكبته، وذلك مالا يمكن تجاهله. ثانياً: ثبات عدم جدوى تبني ودعم جماعة الاخوان المسلمين "الإرهابية"، بما في ذلك حركة حماس في قطاع غزة، وهذا أيضاً لا يمكن الانصراف عنه، كونه أحد أهم نقاط التحفظ السعودي على السياسة التركية خلال السنوات الفائتة. بدليل أن أنقرة أغلقت آخر معاقل الجماعة "الإعلامية" بعد الزيارة مباشرة. ولهذه الخطوة بعض من التفسيرات، أبرزها حسب ما أعتقد أن أنقرة كانت عملت على توظيف ملف الاخوان كورقة؛ تضعها على الطاولة في أي تفاهمات مع الرياض؛ عقب سنوات عديدة من احتواء الجماعة. وللحديث عن العلاقات السعودية – التركية، يستحيل تجاهل بعض الانعطافات خلال السنوات القليلة الماضية، التي أفضت إلى كثيراً من الفتور، وبعضاً من القطيعة. وهذا في السياسة أمرٌ طبيعي للغاية. والقصص والشواهد بالمئات على اعتيادية حدوث ذلك لأي علاقة تربط بين أي بلدين. لكن المهم من هذا الجانب، هو بداية النظر إلى الطريق الجديد الذي ستسير عليه العلاقة بين الرياضوأنقرة، وذلك نظير البوادر التي حملتها الزيارة الرئاسية التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أواخر رمضان الماضي للمملكة، ولقائه بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله -. لا أحد يعلم ما الذي دار خلف الأسوار العالية وفي الغرف المغلقة؛ إلا ان الأجواء التي تمخضت عن تلك الزيارة كما يبدو أنها إيجابية إلى حدٍ كبير، وهذا ما يوحي به الحديث الذي أدلى به أردوغان قبيل مغادرة الأراضي السعودية قبيل مغادرته، حيث قال "نحن كدولتين شقيقتين تربطهما علاقات تاريخية وثقافية وإنسانية، نبذل جهوداً حثيثة من أجل تعزيز جميع أنواع العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبدء حقبة جديدة بيننا. أنا على ثقة بأننا سنرفع علاقاتنا إلى مستوى أفضل مما كانت عليه في الماضي". كصحافيٍ عبثي؛ أفهم أن مضامين تصريحات أردوغان تؤكد حدوث مراجعة للمواقف والسياسات، الذي يتناسب مع الثقل التركي، لا سيما مقابل دولة كبرى كالمملكة العربية السعودية. فالذي ينجلي وينكشف من مفردات الرئيس التركي التي استخدمها، ك"بدء حقبة جديدة، وعلاقات أفضل مما كانت عليه"، تعطي إيحاء بأن هناك ايمان في أنقره بانها لم تجنِ أي أرباح نظير افتعال الخصومة مع الرياض، الأجدر في مقبل الأيام، ترجمة الأقوال لأفعال. وفي الطليعة نزع عباءة حائك السجاد في طهران، عن الأكتاف التركية. والبحث عن مُنتجٍ آخر للفُستقٍ. والابتعاد عن التعويل واللعب على عامل الوقت، وحسن النوايا.. فالطريق إلى جهنم مفروشٌ بحسن النوايا.