يقول جابر الفيفي في كتاب له «إن الإنسان إذا تشبع بالإسلام أصبحت المجانية صفة من صفاته، ولم يعد الربح يعني له الكثير، فقد تجاوز بإيمانه ضرورة النقد، فهو يعلم علم اليقين أن هناك نقوداً أخرى لها قيمة أكبر تأتيه من جهة أعظم، فلا يحرص على أن يأخذ أو يطالب بأجر كل عمل يعمله». لذلك كن مجانيا ولا تنتظر الثمن، لا تنتظر ثمن خير قدمته، ولا ثمن كرب نفسته، ولا تنتظر ثمن دين قضيته، ولا ثمن سرور أدخلته على قلب أحدهم، افعل الخير وتولى إلى الظل، كما فعل موسى، عليه السلام، فقد قال الله: (فسقى لهم ثم تولى إلى الظل). فقد سقى موسى للفتاتين، ولم يطلبهما أجر السقيا، رغم أن موسى، عليه السلام، كان أحوج ما يكون للطعام، وللمسكن وللهدوء النفسي، ولكن مع ذلك لم يأخذ أجرة هذا العمل، لأنه يعلم أن الذي يطعمه ويسكنه ويهدئ من روعه هو الله، وقد رآه الله وهذا يكفيه، فتولى موسى في صمت النبلاء إلى الظل ليسطر لنا قانون موسوي عظيم.. يقول لنا فيه لا تنتظر (شكرا ) اعمل الخير وامضِ، فأصحاب المجانية يأخذون أكثر مما يعطون، هذه حقيقة قد أدركوها ورأوها ولمسوها أن المجاني ينعم برضا وتقدير لذاته، وذلك من وجهة نظر نفسية وعلمية، حيث أثبتت ذلك دراسة حديثة كشفت أن فعل الخير يغمر نفس الفاعل بالسعادة والرضا بنفس القدر الذي يُسر به متلقي الفعل. و أنّ أفعال الخير في الغالب أقرب إلى فطرة النفس البشرية، لذا تخلق هذه الأفعال في أنفسنا شعورا بالرضا. إن عمل الخير عمل معنوي بعيد عن ماديات الحياة ومصالحها ومشاكلها، هو عمل يغذي الروح، ينمي الود والحب، يعلِّم من دون كلام، وأجمل ما في عمل الخير أنّه بحر واسع، بل هو محيط ضخم يندرج تحته آلاف الأشياء التي لا تستطيع حصرها فقط بصدقة وتفريج كرب ومساعدة محتاج، كل ما أتاك الله إياه من وسع تستطيع أن تنفع به فهو خير، فلا تتدخر ما أتاك الله إياه عن الناس، لا تتدخر منصبك، ولا تتدخر علمك، ولا تتدخر مالك، إن كنت تستطيع أن تنفع به فافعل فإن (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس). بل إن المجاني الذي يفعل الخير ولا يلتفت لمردوده بشره الله بدعوة مستجابة، فقد استجاب الله دعوة زكريا، عليه السلام، وذكر لنا السبب (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات). قد يخيل لك أحياناً أن الخير الذي تفعله تجاه أحدهم غير ملحوظ وغير مقدر، لكن حين تقرأ قول الله تعالي (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) هنا يصبح لكل شيء قيمة، هنا تعلم إن كانت تجارتك مع العالمين أم مع رب العالمين، فأي تقدير أعظم من أن الله يعلم ما فعلت؟، فقط افعل الخير ولا تكترث لمن فعلته، فإن وقع في أهله فهم أهله، وإن وقع في غير أهله فأنت أهله وعش على مبدأ «كن محسناً ولو لم تلقى إحساناً». فقد تنام وعشرات الدعوات ترفع إلى السماء باسمك من أؤلئك الذين أحسنت إليهم، فكم من مصيبة صرفها الله عنك بسبب معروفا صنعته فإن (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، وإن أجمل ثمار الفعل الصالح أنها تجعل صاحبها قدوة ومثالًا يُحتذى به دون أن يتكلم، فهو بعمله الذي يُرضي الله ينشر الفضيلة والأخلاق الإسلامية السامية والنبيلة دون أن يتكلم، وهذا هو التعليم الصحيح، فالقدوة تكون بالفعل لا بالقول، فكم هم كُثُر المنظرون الذين لا تُطابق أقوالهم أفعالهم، ولذلك فاعل الخير يكون قدوة صامتة تفعل ولا تتكلم، تقصد نشر السعادة والراحة والرضا بهدوء ونية خالصة لله تعالى. وأخيراً يقول الفيفي (إن الصبر والمداومة هما سر قبول الله للعمل ومباركته، فلا تخيب وتحبط إن لم تجد المقابل بأول عمل مجاني فعلته، المسألة ليست منطقية إلى هذا الحد إنها إلهية أكثر مما تظن لا تفكر في المقابل، فالتفكير أول دليل على عدم الصدق.. كن شهماً فحسب فقط يعطيك الله بعد ذلك جائزة يبلغ ثمنها كل ما قدمت من المجانيات وأكثر.. فالله خيرا وأبقى).