عند النظر إلى السياسة من أجل إبصار السياسيين جيدًا في عالمنا هذا، ربما نحتاج إلى ضوء غير الأضواء المسلّطة عليهم، وعدسات أبسط لكنها أعمق من تلك الممتدة أمامهم، وقراءة مجرّدة لذواتهم تتجنب سماع جملهم المحبوكة وكلماتهم المصنّعة، فهم كغيرهم من البشر حبيسي نقوش وراثتهم وارهاصات مراحلهم العمرية في مجتمعهم، تتقاذفهم بواعث السُلطة في صعودهم المحموم, وقد تحرقهم نيران الانكفاء والعجز والتهميش في هبوطهم الأخير وينبري فرويد في وصف مكونات شخصيتهم وشخصيات غيرهم بأنها ديناميكية، إن سارت تلك الديناميكية في طريق مستقر وتفاعلت بطريقة سويّة ستخلق إنسانا مستقرا K أما إذا تضاربت تلك المكونات وتصارعت مع واقعها المتجدّد وبيئتها الحاضنة، فالاضطراب حالها والتشتت وجهتها ومستقرها، والساسة عندئذ سيؤرقهم ما قد يؤرق غيرهم. لم يبخل المجتمع الدوليّ على رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد بعطائه السياسيّ أو سخائه الاقتصاديّ يوما من الأيام، حتى أن ذلك التعامل غالبا ما أخذ منحى المبالغة والتهويل من قبل الصحافة الدولية والغربية منها على وجه الخصوص، فالرجل يصعد صاروخيّا في بلده، والثناء المفرط يتساقط عليه من قبل المجتمع الدوليّ، حتى أن البعض قد قارن ذلك الزعيم الشاب بنيلسون مانديلا أو باراك أوباما!، وبأقل من عامين وجد الرجل نفسه «الضيف رقم مئة» في فئة جائزة نوبل للسلام، ضيفا مرحبا به لدى الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، تقديرا لجهوده في إفساح المجال أمام الحريات السياسية في بلده، ولتهدئة الصراع المضني مع جاره القريب أريتيريا والذي استمر على مدار عشرين عاما، ثم يتسابق نادي الكبار ممثلا بالقطب الروسي والأمريكي والصيني لتعزيز حضوره الجيوسياسي وذلك بمغازلة أديس أبابا سياسيا واقتصاديّا وعسكريّا، وتتسابق إسرائيل لتعزيز الروابط الأمنية والتسليحية مع نظام آبي أحمد والشرح في ذلك يطول، ثم يتجلى الطرف التركيّ في شدّ أزر نظيره الإثيوبي بكعكةٍ شهيةٍ تسمى البيرقدار التركيّ، لتدعيم القوات الإثيوبية في سجالها المسلّح لدحر التمرد القبليّ من جهة، ولخلق التوازن العسكري مع السودان إثر أزمات الحدود بينهما، ولتحسين قدراتها الدفاعية إذا ما تم استهداف سد النهضة عسكريّا من جهة أخرى. وفي ملف سد النهضة كثيرٌ مما قد يقال، فقد وقف العالم شبه متفرج ولمدةٍ تزيد عن العشر سنين، لم تتجرأ فيه المنظمات والحكومات الدولية على إدانة تعنّت القيادة الإثيوبية، في تمترسها ضد الوصول إلى اتفاق عادل وملزم فيما يتعلق بمياه النيل العابرة للحدود، وبعد كلّ ذلك وغير ذلك كيف سيشعر وماذا سيفعل ذلك الرجل!. بين ليلة وضحاها تشنّ القوات الإثيوبية حملة مدجّجة ضد متمردي تيغراي، يتبعها أن تُحمّل مفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان حاملَ جائزة نوبل للسلام مسؤولية الانتهاكات التي تصل إلى حدّ «الفظائع» في ذلك الإقليم المتأجج، وبعد مرور عام على تلك الحرب الكارثية بكل المقاييس، أخذت الصحافة الغربية تصحو من براءتها الإعلامية، فتصف ذلك القائد بأنه «متغطرس» يشن حربا كارثية تهدد بقائه السياسيّ وبقاء دولة إثيوبيا ككل، وبأن دعواته المتكرّرة إلى شعبه لحمل السلاح و«دفن» المنشقين ما هي إلا مجرد خطوات يائسة وخطيرة تؤجج العنف وتريق الدماء، ليصبح ذلك «الفائز» زعيما محاصرا بين شعبه، مكروها إقليميا ومنبوذا دوليًّا. لقد أساء الرئيس آبي أحمد قراءة المشهد الداخليّ والخارجي، فالرجل أخذته العزّة بالإثم في عدم إدراك الواقع الإثيوبيّ الجديد، الذي تحدّى شركاءه في النيل، وأنذرهم بعزمه على بناء مئة سد آخرَ في مناطق مختلفة من بلاده، ضاربا عرض الحائط بأبجديات القانون الدوليّ، حيث اعتبر أن بناء تلك السدود المئة هو الطريق الوحيد لمقاومة أي قوى معادية لإثيوبيا!. هو نفسه من اختار تشديد قبضته وتدعيم سطوته في مشهد «هوليوودي»، عندما اختار أن يخلع بدلته المدنية مؤقتا، ويلبس بعدها رداء القائد العسكريّ الذي يشاطر جنوده شرف القتال والتضحية، لكنه نسي أو تناسى أنه لو انتصر على خصومه، فإثيوبيا خاسرة، ولو خسر معركته ضدهم فإثيوبيا خاسرة أيضا!.