لفت نظري الشهر الماضي خبر عن سماح الصين لسكانها بإنجاب طفل ثالث لمواجهة تراجع أعداد الشباب وسط تركيبتها السكانية، وهي المشكلة ذاتها التي تعاني منها بعض دول العالم مثل اليابان. عندما قارنت بين هذا الواقع وما نعيشه في المملكة، تبادر إلى ذهني ما كشفه التقرير الأخير الذي أصدرته الهيئة العامة للإحصاء، والذي حمل نتائج مغايرة تماما ومؤشرات إيجابية، ما أحوجنا إلى تأملها والتوقف عندها. التقرير حمل مبشرات كثيرة، في مقدمتها أن عدد سكان السعودية، بما فيهم الوافدون، تخطى حاجز 35 مليون نسمة بنهاية النصف الأول من العام الماضي، وأن عدد الذين تقل أعمارهم عن 40 سنة، أي الذين هم في عمر الشباب وصل إلى 24.188.384 شخصا، أي بنسبة 69.1% من إجمالي السكان، بزيادة 523.429 نسمة عن العام 2019. هذه المعلومة في غاية الأهمية، لأن توفر أعداد كافية من القوى البشرية القادرة على العمل والعطاء هو أبرز المقومات الاقتصادية المطلوبة لإحداث النهضة، كما أن عنصر الشباب هو الثروة الحقيقية للأمم إذا ما تم تأهيلهم بالشكل الصحيح، ومعظم الخطط التنموية تضعهم في اعتباراتها لأنهم المعنيون بها وبإثراء سوق العمل. وقد راعت الخطط التنموية التي تم إقرارها تزايد أعداد الشباب وما يستلزمه ذلك من ضرورة توفير فرص العمل المناسبة لهم، والاستفادة من هذا الكنز البشري الذي تفوق أهميته سائر الثروات الأخرى التي تنعم بها المملكة. وأفردت مساحات واسعة في محاور رؤية 2030 الثلاثة (المجتمع الحيوي والاقتصاد المزدهر والوطن الطموح) للحديث عن الشباب وكيفية رفع مستوياتهم الأكاديمية وتطوير مهاراتهم وقدراتهم العملية وتقليل نسبة البطالة بينهم. ولتحقيق ذلك ابتكر العديد من الحلول خلال الفترة الماضية، ومن ضمنها افتتاح أعداد إضافية من المدارس والجامعات، وتوسعة التخصصات وتنوعها في برنامج خادم الحرمين للابتعاث، وبرامج التدريب المتعددة، كما تبذل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية جهودا كبيرة لتوطين الوظائف، وإيجاد المزيد من فرص العمل لاستيعاب هذه الأعداد المتزايدة. اللافت في الجهود التي تبذلها الدولة لمساعدة الشباب أنها لا تركز على الجوانب الاقتصادية فقط، بل شملت مجالات المجتمع والرياضة والثقافة والترفيه، وفي هذا الإطار يبرز برنامج الابتعاث الذي أطلقته وزارة الثقافة، بإرسال مجموعات من الشباب للالتحاق بعدد من الجامعات الأمريكية والبريطانية والفرنسية، مثل جورج تاون، والسوربون، وكارنيجي ميلون، وكاليفورنيا بيركلي، وكلية لندن الجامعية، وكلية بارسونز للتصميم، ومدرسة مانشستر للعمارة، للدراسة في مجالات الآداب واللغويات، وعلم الآثار، وفنون الطهي، والعمارة، والمكتبات والمتاحف، وتصميم الأزياء، والمسرح، والفنون البصرية، والتصميم. الهدف من هذا التنوع الكبير، هو التعايش الفاعل مع المستجدات العالمية ومتطلباتها وإثراء جوانب الحياة كافة، واستيعاب جميع الشباب، كل حسب هوايته وميوله وقدراته وفق برامج دراسية محددة. أكثر ما يلفت النظر في برنامج الابتعاث الثقافي، أنه يركز على ترقية البنية التحتية، ثقافيا وأدبيا، لذلك تم تخصيص 55% من عدد الطلاب المبتعثين لمرحلة البكالوريوس و44% لمرحلة الماجستير، بهدف تأسيس الطلاب بصورة علمية صحيحة في مجالاتهم، وتمليكهم الأدوات التي تعينهم على تجويد تخصصاتهم. هذه الخطوات النوعية تثبت حقيقة أن المملكة تعيش واقعا يقوم على التخطيط السليم والعمل برؤى متقدمة، وأنها كما تعيش نهضة اقتصادية، تعمل على إثراء جميع جوانب الحياة وتحديث المجتمع، بما يتواكب مع مجريات العصر وتسعى لتطوير قدرات أبنائها ليكونوا أكثر تفاعلا مع الآخر، و قدرة على المشاركة والتأثير الإيجابي.