ليس مستهجناً أو ضرباً من الخيال أن تغرق «سويسرا الشرق» لبنان في ظلام حالك ربما عن بكرة أبيها، وليس من العجائب أن تتلون «زهرة الشرق» بيروت برداء أسود لا يليق بها، بيروت التي عشقها نزار قباني فسمّاها «ست الدنيا»، وبيروت التي لم يجرؤ الفينيقيون ولا اليونانيون ولا الرومان ولا العثمانيون على انتقاص هيبتها أو ردم رونقها. بيروت التي لم تُفلح مصائبها في لجم ساستها، ولم يقو مرفأها على إحراج قادتها، ولم ولا يستطيع أولي أمرها فكّ كربتها أو حتى مجرد الرفق بها. في لبنان الجميل انهيار ماليّ يعصف بالأخضر واليابس، وأكثر من ثلاثة أرباع السكان ينزلقون مكرهين إلى براثن الفقر، وأسعار السلع تتنافس على ملامسة أطراف الغمائم، والوقود قد غدا سجالا للمحظوظين في طوابير الانتظار، والدواء إن وجد فهو أصعب وآخر الحلول، والحكومات لا يكفيها تسعة شهور لتنعم بالحياة، وتتمخض وتتمخض لتلد بياناً وزارياً عذبة ألحانه وحلوة أحلامه، وأصحاب المولدات الخاصة يتسابقون لتشخيص «تاجر البندقية» من على مسرح مولداتهم، والفاسدون والمفسدون قد أصبحوا أشباحاً تنأى العدالة عن تقفي أثرهم وتحديد وجهتهم. فانفجار مرفأ بيروت المهول ربما سيُسجل ضد مجهول، أو يُحفظ صندوقه المنتظر بهدوءٍ لعدم كفاية الأدلة. وفي لبنان تطول قائمة المغتالين منذ عقود دون سطرٍ في خانة الجناة، والعدالة غير المسيسة وهمٌ يبلغ منتهاه، والنأي بلبنان المثقل عن تدخلات غيره كفرٌ يكرهه البعض ولا يرضاه، وقادة الأحزاب والفرقاء السياسيون لا يبرحون منابر التراشق البغيض، ولا يُغفلون المناورة والتخندق خلف سواتر الطائفية والمحاصصة الضيقة، والرئاسات الثلاث تعجز المرة تلو الأخرى عن إنقاذ لبنان وتخفيف أوجاعه، حتى لو بانت نواجذهم وتصافحت أياديهم فوق تلك التلة الخضراء الجميلة في بعبدا. إلى متى سيعجز السياسيون في لبنان عن استذكار دروس الحساب لفهم أهمية القواسم المشتركة، ومتى سيدركون أن التنظير الحزبي يغدو سباحةً في الوحل عند عتبات الأفران المغلقة والأفواه الجائعة، وكيف سيفرغون جالونات ضغائنهم ويبدّلونها بجالونات المازوت المفقود في وطنهم، وهل سيخشون من قوارب الموت والهجرة التي تكاد تخطف الغد اللبناني على مرأى من شواطئهم؟!. لقد غرق لبنان في العتمة.. فهل ما زال أمامهم الكثير ليؤمنوا أن غرقهم في السياسة لم يجلب للبنانيين سوى الغرق في التعاسة!.