إنها نورة بنت محمد بن عبدالله آل عسيلة الدحروجية الواهبية الشهرانية من منطقة عسير.. التي سجلت قصة وطنية حقيقية وليست من نسج الخيال ولم يختلف على أحداثها الرواة والقصاصون، بل وتحدث بها افتخاراً أبناء الشعب السعودي وتغنى بها الشعار الركبان في سفرهم بالبر والجو والبحر. لقد سجلت بطلة القصة أروع الأمثلة في الصفح والعفو والتسامح عند المقدرة لترتدي هذه المرأة الشجاعة ثوب الطاعة لله ولرسوله، لتحقق بذلك قيم التسامح والتعالي على الجراح التي يدعو إليها ولاة الأمر حفظهم الله، عندما تمنطقت بوشاح الحكمة والصبر والشجاعة فتحولت إلى قدوة ومضرب أمثال للآخرين، ولأولئك المدافعين عن المبادئ والقيم في بلادنا السعودية التي تعتبر عمود الارتكاز للمبادئ والقيم الإسلامية في العالم العربي والإسلامي. لقد آثرت رضا الله الخالق البارئ المصور فكانت وأبناؤها البررة بها رمزاً للعزة والشهامة والفزعة والوفاء للعشرة وحق الجار على الجار، فارتفعت إلى سقف المجد ومنصة الشموخ عندما قالت لقاتل ابنها الطالب لحمايتها من الثأر وإجارتها له (أبشر وأنا نورة). لقد بدأت أحداث هذه القصة في عصر يوم الجمعة (16 ربيع الثاني عام 1441ه) عندما قتل أحد الجيران ابن نورة عبدالله بن زامل بن مناحي، الذي ذهب لتعبئة بركة ماء جعلتها الأسرة سبيلا للدواب والبهائم والأنعام السائبة والبرية وغيرها، ولم يكن هناك سبب أو خصومة قديمة معلومة بين القاتل والمقتول، كما أوضح ذلك لوسائل الإعلام شقيق المقتول الشيخ محمد بن زامل بن مناحي آل راجح الحدرجي الواهبي الشهراني.. وبعدما قتل الجاني المدعو / عبدالله بن زامل أتى بعد المغرب ومعه والدته وزوجته وأبناؤه إلى والدة القتيل نورة بنت محمد العسيلي، وقال لها «يا نورة يا أم مناحي أنا قتلت ابنك عبدالله وأنا بين يديك وهذا سلاحي اقتليني أو أجيريني». فاستجمعت نورة قواها في لحظة مخيفة ومحزنة ورهيبة وقالت «لا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون، لقد أجرتك وأنت في وجهي بإذن الله عز وجل»، وعندما رأت ابنها الأكبر مناحي مقبلاً إليهم اتجهت إليه وأقسمت عليه يميناً مغلظة ألا يمسه بسوء حتى تستلمه الدولة والجهات المعنية، ثم قامت بالاتصال على ابنيها الآخرين وهما علي، خارج الدار، ومحمد المتواجد في مكة وأبلغتهما بما حصل وأنها أجارت الجاني وأنه في وجهها وحلفت عليهما يميناً مغلظة أن يبقيا في مكانهما حتى تستلمه الدولة وتحكم فيه شرع الله في الجاني.. وهنا انتشر الخبر بين الناس فصدّقه من عرف هذه المرأة وخصالها وطيب معدنها وشكك فيه من يعرف بأن هذا التصرف فوق قوة احتمال كل أم.. ونقل الخبر إلى سمو الأمير تركي بن طلال، أمير منطقة عسير الذي أكبر وقَدَّر وأشاد بأم مناحي ووجه بدعوتها وأبنائها لحضور افتتاح أعمال لجنة السلم المجتمعي الذي تم في شهر (رجب 1441ه) قبل جائحة كورونا والذي حضره نائب وزير العدل ووكيل وزارة الداخلية لشؤون المناطق وكافة رؤساء الجامعات والدوائر الحكومية وشخصيات مرموقة ومشايخ القبائل ونوابها وأعيانها وقد حضر أبناها مناحي ومحمد، والقى ابنها محمد كلمة مؤثرة في الحفل نالت إعجاب وفخر الجميع، وخصص في ذلك الحفل فقرة عرض كامل عما قامت به أم مناحي من فعل مجيد، ثم إن سمو الأمير تركي وجه بدعوة أم مناحي لحضور تجمع نسائي وطني كبير في السودة ولكنها لم تحضر لظروفها الصحية، ثم أعقب سموه كل ذلك بزيارة تقدير واحترام لأم مناحي وأبنائها في بيتهم في إحدى ضواحي خيبر الجنوب، فكان سموه السباق لإنزال وإعطاء هذه المرأة وأبنائها معنوياً ما يستحقونه من الشكر والقدير والفخر والاحترام. عندما أكملت الجهات التنفيذية والنيابية والقضائية إجراءاتها النظامية صدر الحكم على الجاني بالإعدام في (23/ 7 / 1442ه). وهنا يقول الابن محمد بن زامل بن مناحي «إن أسرة الجاني جيران لهم وإنه تربطهم بهم جيرة قوية والأخوة في الله منذ كانوا صغارا بل منذ عقود من الزمن، وأنه ووالدته وأسرته لاحظوا أن إخوة الجاني لم أصبحوا لا يصلون معهم في المسجد وسمعوا في اليوم الثالث من العزاء أن جيرانهم أهل الجاني سوف يغلقون بيتهم ويرحلون بسبب هذه الجريمة، فاتجه الإخوة الثلاثة مناحي وعلي ومحمد إلى بيت جيرانهم أهل الجني فأقبل عليهم أخو الجاني بندر وقال لهم: إذا أردتموني فخذوا الثأر مني وأنا جاهز. فردوا عليه بالقول: نحن لم نأت لأخذ الثأر ولكننا نريد الجوار. ودخل الإخوة الثلاثة على والدة الجاني وطلبوا منهم ألا يرحلوا وقالوا لهم أنتم جيراننا وإخواننا ووالدتكم أم لنا ومصلانا واحد وقبلتنا واحدة وديننا واحد وأنتم لم ترضوا بما حصل، والجاني لا يمثل إلا نفسه وأن على الجميع الانتظار حتى يحكم الله ما يريد». ولم يخضع آل راجح أبناء نورة في أيام العزاء لمن كان يحرضهم ويقول بحسن نية أو غيرها أجلوهم من الأرض وأخرجوهم من بيوتهم ويجب ألا يكونوا بجواركم ويقصدون أسرة الجاني.. وذكر الابن محمد بأن رده ووالدته وإخوانه «أنهم يفضلون أن يرحلوا هم (أي آل راجح) ولا يرحل جيرانهم»، وبناء على إصرار الشيخة نورة وأبنائها لم يرحل جيرانهم. وتتوالى أحداث القصة وفقاً لما قاله الشيخ محمد شقيق المقتول «في ليلة الجمعة من يوم عيد الفطر المبارك كانوا مجتمعين في بيت والدتهم نورة بنت محمد العسيلي الدحروجي الواهبي الشهراني، ولم يكن هناك ترتيب مسبق وبينما هم يتجاذبون أطراف الحديث قبل ذهاب كل منهم إلى بيته تطرقوا إلى جيرانهم وظهر بينهم التساؤل عن العفو، فقالت لهم والدتهم «أنا أريد أن أعفو عنه وهذه كانت رغبتي من أول ما قتل ابني في ذلك الوقت»، وعندما سمعوا رغبة والدتهم اتخذ الجميع القرار بالعفو، وعندها اتصل الابن الأكبر مناحي بوالدة القاتل وبارك لها بعيد الفطر المبارك ثم أخبرها بأنهم قد عفوا جميعاً عن ابنها الجاني قاتل ابنهم عبدالله. وهنا أظهر المجتمع السعودي بكل شرائحه ومكوناته فخره واعتزازه وتقديره لما قامت به أم مناحي وأبناؤها البررة الكرام من عمل مجيد كانت له آثار إيجابية ومردود بنائي على الشعب السعودي، ومن أهم نتائجه بأنه قوَّى اللحمة الوطنية وحقق شعار سمو أمير منطقة عسير تركي بن طلال الذي سعى ويسعى لتطبيقه وهو (إصلاح القلوب قبل إصلاح الدروب)، كذلك فإن هذا العمل المشهود قد وجه ضربة مؤلمة لتجار وسماسرة الدماء الذين أضروا وأساؤوا كثيراً للمجتمع السعودي، إضافة إلى أن هذا الموقف النبيل قد سن سنة حسنة للارتفاع والارتقاء عن مظاهر وأشكال الغضب والحقد والثأر، وفي ذلك اقتداء بهدي القرآن الكريم (فمن عفى وأصلح فأجره على الله)، وفي ذلك أيضاً اقتداء بسنة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأجل التسليم. لقد لاحظ الجميع أن كثيرا من القبائل وشرائح المجتمع في كافة أنحاء المملكة قد تقاطروا للوصول إلى منزل أم مناحي وأبنائها في ضواحي خيبر الجنوب التابعة لمحافظة بيشة وهم لا يعرفون أسرة آل راجح، معلنين فخرهم بهذه المرأة العظيمة وأبنائها البارين بها بسبب هذا العمل التاريخي النبيل. إن ما قامت به نورة بنت محمد العسيلية عمل تاريخي نبيل لأنها أم وأكرر لأنها أم وما أدراك ما شعور ومحبة الأم تجاه أبنائها، وقد علمت في لحظة من زمن بأن ابنها البار بها قتل وفي نفس اللحظة رأت قاتل ابنها بين يديها وكان المتوقع أن تأخذ ثأرها بيدها عندما سلمها القاتل سلاحه، أو أن تترك ابنها الأكبر مناحي وهو مقبل إليها والشرار يتقادح من عينيه والغضب ينفض ويهز كيانه للأخذ بثأر أخيه من القاتل الجاثي أمامها، ولكنها آثرت ما عند الله فهو خير وأبقى لها ولابنها المقتول ولأبنائها وبناتها وأهلها وذويها، مؤكداً لمن اطلع على هذا المقال أنني كنت مع هذه الأسرة الكريمة منذ بداية الأمر وتشرفت بزيارة أم مناحي وأبنائها يرافقني المعلم والأستاذ المرحوم سعيد بن طارش الشهراني وقمنا بتعزيتهم.. وغردت مفتخراً بما فعلته أم مناحي وأبنائها، وأُشهد الله بأنني علمت بأنهم لم يكونوا يرغبون من أحد جزاء ولا شكورا إلا الأجر والمثوبة من الله... فجزاهم الله خيراً وأثابهم على ما فعلوه من سنة حسنة، وكان أول من اقتدى بهم الوجيه حسن بن سعيد بن شطف البجادي الذي أعلن تنازله عن قاتل ابنه الوحيد في منزل آل راجح عند ملفاه مع قبيلته بني بجاد على آل راجح، حيث أعلن ذلك نيابة عنه الشيخ سعيد بن تركي بن هشبل.. فجزاه الله كل خير على اقتدائه بأم مناحي وأولادها ونتمنى أن يحذو حذوها ويسير على طريقها من يريد العفو من أصحاب المروءة والشهامة وطلاب الأجر من رب كريم ينفعهم في (يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). يقول أحد الشعراء: رزوا الرايات وارفعوها عالي.. للذي ما أصخى بجاره يوم شاف الميله في حقوق الجار وحقوق الرفيق الغالي.. آل راجح فعلهم ذا نادر في جيله والله يا بعض المشالح في الزمان التالي.. إنها ما تسوى عباية نوره آل عسيله