ثمة علاقة بين الاتصال والثقافة من حيث الالتقاء والتكامل. فالثقافة ستنحصر وتنغلق على ذاتها ما لم تزرع وسائل للاتصال فيها الروح، وتضمن لها الانتشار بشكل واسع بين الأفراد والجماعات، والاتصال بدوره سيبقى من دون جدوى إذا لم تزوده الثقافة بالمعلومات والمعارف. وقد بدأ الاهتمام العالمي بالاتصال الثقافي في أواخر القرن العشرين مع تسارع وتيرة العولمة وتنامي ظاهرة الهجرة بسبب الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية في بعض دول العالم، مما دفع بالشعوب إلى الانفتاح عن بعضها والتواصل فيما بينها، أدى ذلك إلى التفاعل الثقافي بين الثقافات العالمية وولد نوعا من التلاقح الفكري والحضاري. وقد ساعد على ذلك وسائل الاتصال الرقمي، من إنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية وكل أشكال الاتصال الإلكتروني، التي تغلبت على قيود الوقت والمسافة وشملت مختلف أنحاء العالم، وأصبحت التكنولوجيا الرقمية في متناول الإنسان، وبمثابة النافذة الأساسية التي يطل منها على العالم ويعرف من خلالها بثقافته وحضارته ويتعرف على ثقافة الآخرين وحضارتهم، ويصل عبرها إلى مصادر المعلومة والمعرفة. كما أثرت الثورة التكنولوجية في العقود الثلاثة الأخيرة في حقل الإعلام والاتصال من حيث الأدوات والمضامين كلتيهما، وإنتاج المعارف والرموز بين الأفراد والجماعات، وأيضا شعوب العالم. وجدير بالإشارة إلى أن السرعة الفائقة والتطور الكبير في صناعة تكنولوجيا وسائل الاتصال والمعلوماتية، أحدثت الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة التي تمتلك تلك التكنولوجيا والدول النامية التي تفتقر إليها. أضف إلى ذلك أن العولمة ساعدت على زيادة التفاعل بين الشعوب وحرية تداول المعلومات والترابط بين الثقافات. ولذلك فإن التحدي الذي يواجه العالم المعاصر يتمثل في القدرة على التواصل بغض النظر عن الاختلافات الثقافية. وهنا يأتي دور الاتصال الثقافي. فكيف يمكن للثقافات المحلية أن تفرض ذاتها في سياق الاتصال الثقافي العالمي؟ وهل دخول هاته الثقافات مجال الاتصال الثقافي العالمي سيمنحها صفة «الثقافة العالمية» أو «الثقافة الكونية» أو التأثير في الثقافات الأخرى، أو سيجعلها تتلاحق فيما بينها أو تندثر أمامها؟ قبل محاولة الإجابة عن هذه الإشكالات، لا بد أن نشير إلى أن نمو وسائل الاتصال الرقمي وتطورها السريع أدى إلى تغيرات شاملة في الحياة الثقافية في العالم المعاصر، وأصبح من السهل أن تنعقد العلاقات والصلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بين الدول والشعوب بشكل واضح وعميق، بل صار من غير الممكن أن تعيش ثقافة محلية ما بمعزل عن ثقافات بلدان العالم، وأصبحت المادة الثقافية، المتعددة المصادر والروافد، متاحة للجميع على شبكة الإنترنت. كما أزيحت الحدود التي كانت تعيق الاتصال الثقافي بين مختلف شعوب العالم. وفي الوقت نفسه، أدت تكنولوجيا وسائل الاتصال الرقمي إلى إحداث صدام ثقافي أو مواجهات ثقافية غير معهودة قد تؤدي إلى الغزو الثقافي أو إلى ما يسمى ب«عولمة الثقافة» أو «العولمة الثقافية». وهي ثقافة ذات بعد واحد، ثقافة الدول التي تملك وسائل الاتصال الرقمي المتطورة القادرة على اختراق الثقافات الوطنية والمحلية لصالح ثقافة عالمية واحدة، تحركها أهداف ومصالح اقتصادية للدول الصناعية. هذه الثقافة العالمية، ذات الجذور الغربية الليبرالية بالأساس، تشكلت في العقد الأخير من القرن العشرين، وتقوى نفوذها بعد نهاية الحرب العالمية الباردة وانهيار جدار برلين واكتساح فكرة العولمة، وأججتها الأطروحات والأفكار بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001 بالولايات المتحدة، مما أسهم في انفراد النظام الليبرالي بقيادة العالم، والسعي إلى تعميم ثقافته وقيمه على الآخرين، وفرض فكرة انتصار الحضارة الغربية كآخر حضارة في العالم، كما روج لذلك العالم والفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». هذه الثقافة صارت تنتشر بقوة على حساب ثقافات محلية ووطنية عديدة، كما ساعدت وسائل الاتصال الرقمي على انتشار أفكارها وأطروحاتها. ولذلك، قد يكون أحد أكبر التحديات المصاحبة لهذه التغيرات في المنطقة العربية هو الخوف من ذوبان الثقافة العربية وموروثها أمام الثقافة العالمية الجديدة المهيمنة، خصوصا مع انتشار وسائل الاتصال الرقمي والانتشار الواسع والسريع للمحتوى الثقافي الغربي بفضل ما حققته التكنولوجيا الحديثة للمعلومات. في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن الاتصال الثقافي يعد ضرورة مهمة لتطور وتجدد الثقافة المحلية ولنشر موروثها وتعزيز مكانتها الأدبية والثقافية على الصعيد العالمي، وإلا تعرضت هذه الثقافة إلى خطر التهديد والتلاشي، لا سيما ما يتعلق منها بالموروث الثقافي الغني والغزير بأشكاله وألوانه الإبداعية. فالثقافات المحلية غنية بروافدها المتنوعة، وتحتاج إلى التجديد لتغدو ثقافة عالمية تنويرية. وهذا لن يتأتى إلا عن طريق فهم الموروث الثقافي، وتربية النشء على الفكر العقلاني والحس النقدي، ومواكبة التطور العلمي وتكنولوجيا المعلومات، حتى تستطيع الثقافات المحلية أن تقوم بأدوارها على أكمل صورة نحو بناء مستقبل مشرق للأمة وللمجتمع. فضلا عن ذلك، فإن الاتصال الثقافي يساعد على نقل التراث الثقافي بين الشعوب، ويعمل على تسهيل التواصل بين الأفراد والجماعات ذات الثقافات المتعددة، ويسهم بصورة كبيرة في إمكانية وإيجاد فرص التحاور والتثاقف والتلاقي. وهذا بدوره قد يساعد الثقافات المحلية أن تخرج من عزلتها، من أجل الانفتاح على الرصيد الثقافي العالمي والمساهمة مع ثقافات العالم في تشكيل حضارة إنسانية فاعلة، دون أن يعني ذلك الانصهار والذوبان في ثقافات أخرى أو في الثقافة الواحدة المهيمنة. وعلى ذلك، ينبغي استثمار الاتصال الثقافي في ترويج مبادئ الانفتاح الفكري والثقافي على الثقافات الأخرى وضرورة التفاعل معها تفاعلا إيجابيا يفضي إلى تطوير الحضارة الإنسانية بمجملها، وفي الوقت نفسه إظهار الوجه المشرق للثقافات المحلية وبموروثها المتجذر في التاريخ، على مستوى الأدب والشعر والموسيقى والفنون الأخرى المختلفة، لأن انغلاق الثقافات المحلية على ذاتها وعدم تفاعلها مع الثقافات الأخرى يؤدي إلى تحجر هاته الثقافات وجمودها وركودها وعدم مجاراتها التطور الحاصل في العالم. إن حتمية الاتصال الثقافي بين الشعوب هي حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها، يمكن عن طريقه تفعيل التواصل بين الثقافات المحلية وبين الثقافات الأخرى، وتكثيف حُضورها على الصعيد الدولي، والعمل معا على تقديم صورتها المشرقة والتعريف بأهمية التراث الثقافي العربي المتنوّع ونشر قيم الحوار والوسطية والسلام في العالم، وجعل الثقافات المحلية رائدة التواصل الكوني، على خلاف من يريدون تشويه هذه الثقافة على أساس أنها ثقافة متزمتة ومنغلقة وغير مبدعة. وتأسيسا على ذلك، فإن التحدي الأكبر يتمثل في المحافظة على بقاء الثقافات المحلية قوية بمكوناتها ومضامينها الأدبية والفنية والتراثية العميقة التي تزخر بها وتطهيرها من التشوهات التي طرأت عليها، في فترة من التاريخ، وإكسابها القدرة على فرض ذاتها، كثقافات أصيلة وذات حضارة وتاريخ مجيد. هذا التحدي هو السبيل الوحيد لفهم واستيعاب الحضارة المعاصرة، التي يبقى الانفتاح عليها أمرا ضروريا للاستفادة مما هو إيجابي فيها، وأيضا وسيلة رئيسية للحوار الثقافي والحضاري، دون إقصاء هوية الثقافة المحلية لأي مجتمع، لأن الاتصال الثقافي لا يعني انصهار ثقافة ما داخل ثقافة أخرى أو المطابقة بين الثقافات، وإنما يعني بالدرجة الأولى الحوار بينها واستيعاب بعضها البعض وإبراز المضامين الإبداعية والإنسانية والحضارية لكل ثقافة. وفي الأخير، ينبغي التأكيد أيضا على أن الاتصال الثقافي أمر لا بد منه لترسيخ أسس التفاهم بين الشعوب والحوار بين الثقافات، وتعزيز التنوع الثقافي وروح التسامح والقبول باختلاف الثقافات وتكاملها وتلاقحها.