(لست عصاميا).. هكذا قال عن نفسه الشيخ صالح كامل يرحمه الله عندما عرضنا عليه في مركز إنتاج جدة التابع لشبكة راديو وتلفزيون العرب (ART) استضافته في برنامج يسلط الضوء على العصاميين، وقال (ساعدني والدي كثيرا وللدولة فضل كبير علي، وخاصة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الذي اسند إلي عددا من المشروعات). ذات صباح في أحد مواسم الحج التقى الشيخ صالح كامل، بوزير الزراعة الأسبق الشيخ حسن المشاري، قال الوزير (يا صالح أمس في العصر رأيت واحدا مثلك يرتدي "فوطة وفانيلة" ويقود سيارة وانيت)، فيجيبه الشيخ صالح كامل (أنا هو.. فأنا في الصباح موظف حكومي (ممثل مالي) وبعد الظهر صبي مطوف عند والدي). بعض زملاء الشيخ صالح كامل في جامعة "الرياض" الملك سعود ومنهم الإذاعي القدير هاشم ملاوي يرحمه الله قال لي "كنا نحزن على صالح كامل ونقول ماذا سوف يعمل هذا المسكين عندما يتخرج؟ فلم تكن الدراسة همه، وإنما العمل التجاري، حيث أنشأ في السكن الداخلي للطلاب "كفتيريا" ووضع بها ماكينة تصوير للمذكرات"، لقد كان كل طلاب الجامعات في ذلك الزمن يطمحون إلى الالتحاق بوظيفة مرموقة بعد تخرجهم في الجامعة. دائما يلفت انتباهك تواضع الشيخ صالح كامل، ويبهرك بفكره الاقتصادي، ويستحوذ على إعجابك بفهمه لرسالة الإعلام، ويشحذ همتك وأنت ترى قدرته وجلده على العمل. رغم أني عملت في شبكة راديو وتلفزيون العرب لأربع سنوات متعاونا ثم معارا من الإذاعة السعودية، إلا أن لقاءاتي مع الشيخ صالح كامل كانت قليلة جدا، كانت أول مرة أشاهده في الطائف، وكنت يومها مقدما لحفل رجال الأعمال حيث ألقى كلمتهم، وتساءلت بيني وبين ذاتي، كيف لرجل بهذا الثراء ويقف أمام الأمير ماجد بن عبدالعزيز، وأمام هذا الحفل من رجال الأعمال والإعلام ولا يقفل أزارير رقبة الثوب؟، وعندما أجريت معه حديثا تلفزيونيا في مكتبه بمناسبة مرور عام على إنشاء شبكة راديو وتلفزيون العرب طلب مني مدير التصوير بصوت خفيض (يا ريت تقول للشيخ يصلح الغترة ويقفل ازارير الثوب) بعد إذنك يا شيخ صالح، المصور يقول ياريت تعدل الغترة شوية. الشيخ صالح يبتسم ويقوم بتعديل الغترة. فضلا يا شيخ صالح كمان يا ريت تزرر الثوب. شوف يا عدنان: أنا الناس تعرفني كدا مهبب لو زررت الثوب ما راح يعرفوني، ثم يضحك. في ظهيرة يوم ما وقد بدأ تعاوني مع (ART) كنت والدكتور عبدالعزيز النهاري الذي كان مديرا عاما للإنتاج ثم نائبا للرئيس وهو من دعاني للتعاون مع (ART) نخطط في مكتب متواضع في برج دلة لكيفية العمل فتلقى اتصالا هاتفيا وبعد انتهاء المكالمة أخبرني أن الشيخ صالح كامل سوف ينزل الآن من مكتبه ليتعرف على خططنا والمكان الذي نعمل به. كانت هذه هي المرة الثانية التي أشاهد فيها الشيخ صالح كامل حيث دخل علينا حاسر الرأس، وبعد أن عرفه الدكتور عبدالعزيز النهاري عليّ قمنا بجولة على المكان ودار حديث حول مكان الاستديو وما يتعلق بالعمل، وعندما غادر صافحنا، وقال: فرصة طيبة أخ عدنان، بالطبع استغربت كيف حفظ اسمي بهذه السرعة فهو الشيخ صالح كامل ومثله لا يمكن أن يشغل باله اسم متعاوني مثلي. اللقاء التالي بالشيخ صالح كامل كان في مكتبه بحضور الدكتور النهاري وفتحي عبدالله والزميل جبريل أبودية.. كان الشيخ صالح يستعجلنا لإنتاج برامج من السعودية بينما نحن لا نملك معدات ولا استديو ولا مكتبة، فقلت (نحن نستطيع التصوير بمعدات مستأجرة، لكن لا بد من الذهاب للقاهرة لعمل المونتاج)، فقال الشيخ (وطبعا هذا يلزمه سفر دائم بين جدة والقاهرة والله يا أخ عدنان أنا ماني جالس على بحر). أُسقط في يدي وتأثرت كثيرا من ردة فعله لدرجة أنني ألمحت للدكتور النهاري أني غير راغب الاستمرار في العمل، فالشيخ بقوله كأنه يتهمني بتبذير المال، لكن الدكتور النهاري كبح جماح اندفاعي، وقال (أنت لم تعرف الشيخ بعد، هو لا يقصدك وإنما يتحدث للجميع عن العمل، لا تزعل)، كان الشيخ يتحدث وبين أسنانه "دبوس" وهو أمر مقلق لمن يتحدث مع الشيخ، ولم أعرف سر وضعه "للدبوس" إلا قبل أشهر حيث أفصح عن ذلك الإعلامي الكبير الأستاذ حمدي قنديل في كتابه "عشت مرتين"، فقال "لم اكن افهم لماذا كان يضع بين أسنانه "دبوس إبرة" عندما كان يعمل، وبالذات عندما كان يقابل ضيوفه، حتى أفصح لي عن السر، أنه يفعل ذلك ليشتت انتباه الضيف إذا ما كان يتفاوض معه على أمر هام". كان أول برنامج أصوره في "ART" لقاء مطولا مع الأستاذ عزيز ضياء لصالح برنامج "مشوار"، ولأنه أعجب باللقاء فقد بعث بخطاب شكر للشيخ صالح يثني فيه عليّ، وفي اجتماع تالي مع الشيخ صالح في مكتبه فاجأني بقوله (متى راح تسوي لقاء مع والدي؟)، وكما يقول المصريون: يا خبر أبيض!. والله يا شيخ صالح وقت ما تؤمر. طيب أنا أكلمه وأخليهم ينسقوا معاكم. في كل لقاءات العمل مع الشيخ صالح أفاجئ بأمر لم أكن أعرفه عنه، ففي أحد الأعوام قررت (ART) إقامة احتفال بمناسبة اليوم الوطني وإنتاج أوبريت غنائي، واخترنا مسرح جامعة الملك عبدالعزيز مكانا للاحتفال حيث يحضره الأمير ماجد بن عبدالعزيز، وأثناء البروفات حضر الشيخ صالح، ثم أخبره في نهاية البروفة الدكتور النهاري أننا قد فردنا السفر لعشاء الفرق فما كان من الشيخ إلا الجلوس معنا على الأرض وتناول طعام العشاء بتواضع ملفت للجميع. ما سبق وذكرته غيض من فيض، وكثيرون جدا يعرفون ما لا أعرف عن الشيخ صالح كاقتصادي وصاحب فكر متميز في الاقتصاد وفي الإعلام، ورجل خير للقريب والبعيد لمن يعرف ولمن لا يعرف حتى ممن ينافسه في مجال عمله. أجريت في الرياض لقاء لصالح برنامج "مشوار" مع شخصية ثقافية وعلمية كبيرة جدا ولاحظت أن الضيف مستور الحال لدرجة أن عائده المالي لا يفي بكل نفقاته، فكتبت خطابا للدكتور النهاري أطلب فيه صرف مكافأة كبيرة للضيف مقابل اللقاء وذكرت السبب، فرفع الخطاب للشيخ صالح، فرد الشيخ صالح بشرح مفاجئ (أخبر الأخ عدنان أن فلانا ممن يصرف لهم راتب شهري منذ سنوات). كان أول تعليق لي على وفاة الشيخ صالح كامل عندما نشر الشيخ أحمد فتيحي في مجموعة الثلوثية جزء من محادثة تمت بينه وبين الشيخ يوم الأحد عبر "واتساب صوتا" (من أين لنا بشخصية كهذه رحمه الله وأسكنه فسيح جناته)، قلت هذا وقد سمعت الشيخ يعلق على مقالة بعثها له الشيخ أحمد فتيحي فيها من الحكمة ما نحتاجه جميعا، قال الشيخ صالح (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومعافاته، يا أخي أبا وليد، والله أنت صرت بيدباء العصر، هذه التي قرأتها اليوم سوف أرسلها لكل أولادي وأحفادي الكبار لأنها وصفة أغلى من الذهب)، لم يكن الشيخ صالح كامل رجل أعمال وإعلام وصاحب ثروة ورجل خير بل هو أيضا يلفت انتباهك بثقافته، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.