الخط العربي رسول البيان وترجمان الجنان، يتكلم ويصف ويعبر بدون لسان، ويحفظ بدون حافظة، ويذكر بدون نسيان، وهو مرن يقبل التطور، والتحسن.. والتشكيل والتجميل. عندما بدأ جعل السعف سطوره، وفي الحجارة والأدم كتبه المنشورة، ثم وثب حتى صار من الفنون الجميلة، وصار له هواة يحبونه ويعشقونه، ويسهرون ويبتكرون لتطويره وتحسينه وتجميله، ولا يبتغون به بديلا، ويتفننون في لامه وبائه ونونه كثيرا، ويقضون أثمن الأوقات وأكثرها في تكييفه وإتقانه وتنويعه حتى صار علما معروفا وفنا جذابا مألوفا، فبنيت له المدارس وخصصت لتدريس علومه ورسمه العلماء والأساتذة، وتسابق للنجاح في علمه الطلاب الفنانون الهواة، فكان لهم من علومه رفيقا، ومن فيضه نصيبا. عظمت دولته في القرن الثالث الهجري، وجلس على عرش هذه الدولة أبو علي محمد بن مقلة، فابتكر فيه وطوّر وحسن، وجعل له كيانا مرموقا وعلما مأثورا، وتربع على عرش دولته بعده في القرن الرابع الهجري أبو أيوب بن هلال، فكان من جهابذته الملهمين وهواته المبتكرين، فبرع في تطوير حروفه، وتنقيطه وتشكيله، وأقلامه وتحبيره، وكل أجهزته.. حتى لقد تغنى الشعراء بلامه ونونه وفنونه فقال أحدهم: ولام هلال مثل نون أجادها *** يجاري النضار الكاتب بن هلال ثم انتقلت دولته للعهد الغوراني وللعهد العثماني، وللقاهرة فكان فيها علماء خط وفقهاء رسم، وفنانو كتابة وتنويع.. وكان له في كل بلد إسلامي دولة تمسك ببراعة، وتعمل على إعلاء بنيانه وتدعيم أسسه وأركانه. ثم بدأت دوله تضعف ودخل على الخط العربي دخلاء لا يحسنون نونه ولا يجيدون لامه ولا يعتنون ببائه ولا جيمه ولا داله، فاشتكت -لام ألفه لا- ورفعت ذارعيها للسماء مستنجدة برجال الكلمة وأبطال الحرف وأنصار الإسلام والقرآن، خوفا من انهيار دول الأقلام التي بدأت مع ظهور الإسلام، ومشت في ركابه، ومع قرآنه جنبا إلى جنب جهادا ونضالا وتمكينا وتأييدا، ولا تزال له دولة اليوم في مصر وفي بعض الدول العربية، ولكنها لم تكن في الأوج والقمة.. كما كانت من قبل، وبلادنا الرائدة التي تتحرك في كل زاوية منها نهضة، ويلمع في كل أفق بها كوكب نشاط.. بلادنا هذه أرجو -وهي قادرة إن شاء الله- أن تحتضن دولة الخط العربي، فتسلح جنوده وترفع بنوده وتعز أبطاله وتجيز رجاله بما يشجع على قيام أعظم دولة عندنا، لتسير مواكبة مواكب نهضتنا جنبا إلى جنب وكتفا إلى كتف. إن مكائن الطباعة، والآلات الكاتبة لم تقلل من عزيمة خطنا، ولم تضعف من سلطانه، فلولاه لما تحركت ولا دارت، ولا طبعت، ولا أنتجت ولا استطالت. وإنك لترى الخط يبرز في أضخم العناوين.. ويعبر عن أسمى المضامين في الصحف والكتب والطرق والإعلان في كل مكان.. لم يرض إلا أن يكون مقعده في الصدر، وموكبه في الطليعة، فلا يستغنى عنه كاتب ولا صناع ولا قارئ، ولا تاجر، ولولاه لضاع الجمال في هذه الحال. أقترح فتح معهد خاص بتحسين الخط العربي يسمى -المعهد السعودي لتحسين الخط العربي-.. وتطويره وتخصيص مكافآت مغرية لطلابه، وجوائز معنوية ومالية لتكون له في بلادنا دولة تسهر على إعلاء شأنه، وتحسينه والإبداع فيه. *1977