بعد أن أصبحت الأخبار تصل بسهولة لجوالاتنا، وهجرنا «الصحافة الورقية» ومصطلح «موت الصحافة» يتردد كتعويذة يردّدها البعض عند كل حديث عن الإعلام، لكن الواقع، كما يقول أهل السوق، لا يعترف بالشعارات، بل بالأرقام، والأرقام –بكل وضوح– تقول: الصحافة لم تمت، لكنها ببساطة غيرت جلدها، وتحوّلت إلى منتج رقمي يُباع للمشترك، ويُقاس بالأثر، ويُصاغ بعقلية مختلفة، فصحيفة نيويورك تايمز، تجاوزت 11.4 مليون مشترك بنهاية 2024، وأكثر من نصف مليار دولار من عوائد الاشتراكات الرقمية فقط، ام صحيفة فاينانشال تايمز، فحققت أكثر من 500 مليون جنيه إسترليني لأول مرة في تاريخها، وصحيفة وول ستريت جورنال تجاوزت 4.3 مليون مشترك، معظمهم في النسخة الرقمية، اما صحيفة لوموند الفرنسية أصبحت 77 % من إيراداتها تأتي من المشتركين، بعد أن وصلت إلى 580 ألف مشترك رقمي. هذه الصحف لم تنجح في زمن (موت الورق) لأنها فقط كبيرة، ولكن لأنها كانت جريئة بما يكفي لتتغير، بفهمها أن الإعلان لم يعد يطعم الخبز، وأن القارئ الرقمي مستعد للدفع، إن هو وجد قيمة لا تقدمها له تغريدة عابرة أو منشور سريع. لكن السؤال المهم في ظل المرحلة التشاؤمية التي نعيشها صحفياً بمنطقتنا العربية، هو هل مات الصحفي؟ وهذا الأمر ما ذكره معالي وزير الاعلام الأستاذ سلمان الدوسري اثناء استضافته في برنامج الليوان، حيث ذكر وهو الصحفي المخضرم، ان ما يخشاه هو موت الصحفي وليس الصحافة الورقية، ولكن في ظل المرحلة الحالية التي نعيشها، نقول ان الصحفي الكلاسيكي، الذي ينتظر بياناً، ويعيد إنتاجه بلغة منسوخة، انتهى دوره فعلياً او مات بلغة اعلامية، لان الصحافة لم تعد تتسامح مع السطحية أو التكرار، ولا مع «ناقل المعلومة»، بل تبحث بعصرنا الحاضر عن صانع المحتوى المحترف: من يحقق، يفسر، يحلل، ويضيف زاوية لم تُرَ من قبل، فالصحفي اليوم هو باحث، ومحرر، ومصور أحياناً، ومنسّق للنشر، ويعرف متى ينشر وكيف، ولأي جمهور، ولنكن اكثر واقعية ان هذا التحوّل هذا ليس تهديداً، بل غربلة. والواقع الذي نعيش في ظل هذه الغربلة جعل من غياب الصحافة الجادة ووجود النقد البناء، فحين كانت الصحافة حاضرة بقوة، لم يكن أحد فوق النقد، كان الكاتب الصحفي يراجع قراراً، ويحلل أداء وزير، ويقيّم عملاً فنياً، ويراجع كتاباً جديداً، ويطرح الأسئلة التي يخاف الناس طرحها علنًا، أما الآن، مع تراجع دور الصحافة التقليدية (المؤقت)، بات المشهد ساحة مفتوحة لصوت المديح، أو فوضى منصات لا تفرق بين النقد والتجريح، اختفى الناقد الحقيقي من الصفحات الثقافية، وغاب الكاتب المتخصص عن الملحق الرياضي، وبات المشهد أشبه بحوار داخلي يديره المسؤول مع نفسه، وهنا الخطر: أن تستبدل الصحافة بال»مؤثر»، والرأي المهني بال»رأي الجماهير»، والعمق بالسطحية السريعة. الخلاصة ان الصحافة لم تمت، والصحفي لم ينقرض، لكن غيابهم عن المشهد يؤثر علينا في جميع المجالات، بوجود نقد أقل، محاسبة أضعف، ومعايير ضبابية في كل مجال. نقلا عن الرياض