المحور الأول : شجرة السيرة النبوية : تمثل الهجرة النبوية فرعًا محوريًا من شجرة السيرة النبوية التي مازالت تضرب في الأرض وتتسامق في السماء منذ بعثة النبي محمد . وقد أدرك ذلك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فكان من عبقرياته أن بدأ التقويم الإسلامي من ذلك اليوم - كما يرى عباس محمود العقاد - ليمحو من ذاكرة الأمة الفتية ما تبقى من عوالق الثقافة الجاهلية الشفوية التي لا يمحوها إلا الزمن ، ويدشن عصر التدوين المكتوب بملحمة الهجرة التي كانت فرقانًا ناصعًا بين الشرك والتوحيد . ورغم أنها كانت في شهر ربيع الأول - على أرجح الروايات - إلا أن عمر بدأ التأريخ من المحرم أول شهور السنة القمرية المعروفة عند العرب وأقرها القرآن : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ... التوبة 36). وفي ذلك تمييز بعيد النظر بين شخص الرسول والرسالة ؛ عملًا بمقولة أبي بكر الصديق : "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت "(1). وبعبارة أخرى : كانت الهجرة ثورةً أبديَّة على تصنيم أي مخلوق وإن كان خاتم النبيين ! وتحققت فراسة عمر فمازال المسلمون منذ (1444) عامًا يستلهمون من الهجرة ما يميزهم عن بقية الثقافات العالمية سواء السابقة واللاحقة ، وفي الوقت نفسه عادت الجاهلية بنهاية ما يعرف بالخلافة الراشدة أشد وأخطر من الجاهلية الأولى ؛ فكما عبد بعض اليهود بعض أنبيائهم ، وكما عبد معظم النصارى عيسى بن مريم وأمه ، عبد بعض المسلمين محمدًا !! ولا يتسع المجال هنا لاستعراض التحولات التي أدت إلى ذلك . المحور الثاني : ازدهار المدائح النبوية : وحسبنا التذكير بالحتمية التاريخية التي تقول : "إن تردي الواقع السياسي والعلمي والاجتماعي يؤدي إلى ازدهار الفنون الشعبية بمختلف أشكالها" (2)، وهو ما يصدق على فن المدائح النبوية ؛ إذ بلغت أوج مجدها على يد الشاعر أحمد شوقي (1868- 1932) م في وقت كانت الشعوب الإسلامية بين سندان الاستبداد الداخلي ومطرقة الاستعمار الأجنبي ؛ فلم يجد رمزًا يستنهض به الهمم المطحونة غير النبي العربي ؛ فنذر مواهبه الشعرية والفنية والثقافية الموسوعية ومكانته الاجتماعية وثروته المالية على مدى مايزيد عن أربعين عامًا لينفض رماد السنين عن الرمز الإسلامي الأعظم ، مع أن شوقي كان ربيب القصر – سندان الاستبداد – وتلميذ الغرب ؛ مطرقة الاستعمار !! ورغم أنه اختار الفصحى في كل إبداعه شعرًا ونثرًا إلا أنه لم يتردد عن توظيف الزجل أيضاً ليرتقي بلغة الشعب المحكية (3) . ومن الصعب أن نقتلع ثيمة الهجرة من إبداع شوقي ، ولكننا نستطيع القول : إن الشعر الموجه للأطفال يمثل ذروة العبقرية الفنية عنده . يقول في مقطوعة (الوطن) مثلاً : عُصفورتانِ في الحِجا زِ حَلَّتا على فنَن في خامِلٍ من الرِّيا ضِ، لا نَدٍ ولا حسَن بينا هُما تَنتَجِيانِ سَحَرًا على الغُصُن مَرَّ على أَيكهِما ريحٌ سَرَى مِنَ اليَمَنْ حيَّا وقال: دُرَّتا نِ في وِعاءٍ مُمَتَهَن ! لقد رأيتُ حَوْلَ صَنعَاءَ، وفي ظلِّ عَدَن خمائلاً كأَنها بقِيَّةُ من ذِي يزَن الحَبُّ فيها سُكَّرٌ والماءُ شُهْدٌ ولبَن لم يَرها الطَّيْرُ ولم يَسمَعْ بها إِلا افتَتَن هيَّا اركباني نأْتِها في ساعة منَ الزمن قالتْ له إِحداهما والطَّيْرُ مِنهنّ الفطِنْ : يا ريحُ أَنتَ ابنُ السَّبي ل، ما عَرَفْتَ ما السَّكن هَب جنةَ الخُلدِ اليمن لا شيءَ يَعدِلُ الوطن !(4) فجعل الحجاز بطبيعته القاسية هو السكن والوطن الذي لاتوازيه جنان الأرض، ومعلوم أن الهجرة النبوية كانت من مكة بجبالها ورمضائها إلى يثرب بحرارها وسمومها ولأوائها ! أما أمير الزجل المحكي المصري بيرم التونسي فقد فجر عبقريته - التي طالما تخوف منها شوقي - في آخر قصيدة كاملة كتبها قبيل وفاته في مطلع يناير 1961م(5) وهي : (القلب يعشق كل جميل) حيث خلد فيها هجرته الشخصية نحو اليقين الصوفي العميق الدقيق : مكة وفيها جبال النور طلّة على البيت المعمور دخلنا باب السلام غمر قلوبنا السلام بعفو رب غفور .. ويختمها ببلوغ المسجد النبوي : جينا على روضة.. هله من الجنة فيها الأحبة تنول .. كل اللي تتمنى فيها طرب وسرور.. وفيها نور على نور وكاس محبة يدور.. واللي شرب غنى وقد شدت بها السيدة أم كلثوم من تلحين رياض السنباطي بمشورة أحمد رامي بعد نكسة (1967) م مباشرة لتنتشل الشعب من صدمته الثقيلة (6) ، وهي سُنَّةٌ لفرقة أم كلثوم منذ نكث الإنجليز بوعدهم للزعيم سعد باشا زغلول (1927) م مرورًا ب(1936) (1948) و(1956)(7) . ويبدو أن التفاؤل بالهجرة النبوية راسخ في ثقافة الشعوب الإسلامية منذ العهد الأموي(7) يتوارثه الزعماء والفنانون إلى اليوم فحين قرر الملك عبد العزيز توطين أبناء البادية سمى الأماكن التي يستقرون فيها ب(الهجر) ومفردها (هجرة) تيمنًا بهجرة النبي وعملًا بقوله : "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (8) وذكر المخرج السوري مصطفى العقاد أنه كان يحمل هاجس فيلم (الرسالة) مذ غادر حلب لدراسة السينما في أميركا تيمنًا بالهجرة التي غيرت وجه العالم إلى الأبد (9) ؛ كما يقول في آخر الفيلم !! ويذكر المطرب الشعبي الكويتي عبد الكريم عبد القادر أنه بعد أن نجح في اختبار إذاعة الكويت قرر أن يستهل مشواره بأغنية (شوقي سعى بي إلى المدينة) وكانت فاتحة خير وبركة – كما يقول – وأردف : "أن الفنانين في الكويت والخليج يتفاءلون بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم "(10) !! المحور الثالث: الأساطير الشعبية : ومازال السعوديون يسمون الطريق الإسفلتي الذي يربط بين مكةوالمدينة اليوم بطريق الهجرة . وكل شيء أو مكان أو نبات أو حيوان كانت له صلة بالهجرة تحول إلى أسطورة تتوارثها الأجيال دون نقد موضوعي أو تساؤل منطقي أو تمحيص علمي ، كالعنكبوت التي تقول المراجع إنها بنت بيتها في فوهة الغار؛ إذ مازال الوعي الجمعي يقدسها فلا يقتلها ولا يهدم بيتها ؛ عرفانًا بمساعدتها للنبي وصاحبه بتضليل من تبعهما ، وكثير من الناس يعتقد أن تسمية سورة باسمها هو تكريم من الله تعالى لها ووعد ببقاء نوعها إلى يوم القيامة !(11) وكذلك الحمامة التي بنت عشها فوق الغار وهبت في وجوه قصاص الأثر وربما فقأت عين أحدهم وذرقت على لحية آخر (12) ؛ فمازال الاعتقاد الشعبي سائدًا بأن النوع المسمى (حمام الحرم) هو من سلالتها، وقد أبدع بيرم التونسي في توظيف هذه الأسطورة في (القلب يعشق كل جميل) بقوله : فوقنا حمام الحمى عدد نجوم السما طاير علينا يطوف.. ألوف تتابع ألوف طاير يهني الضيوف.. بالعفو والمرحمة أما الناقة التي هاجر عليها فلم يقف الناس عند تخليدها ببناء مسجد قباء والمسجد النبوي على مبركها بل نسجوا حولها بعض الخرافات فقالوا إنها كانت تجتاز الحرار بسرعة دون أن تؤلم النبي : إما بالقفزعاليًا لخفتها وكأنها تطير ، وإما بقذف الصخور بيديها لقوتها الخارقة التي ظلت تحتفظ بها إلى أن توفي النبي فانهارت وفقدت بصرها من شدة البكاء عليه وتزعم الرواية أن الصحابة دفنوها حيث ماتت كما يدفن البشر(13) ، وإلى سنة 1406ه ظل مدفن الناقة مزارًا يتهافت عليه الناس ! ومازال أهل الإبل يفضلون لونها (الأحمر المائل إلى البياض – الأصفر بلغة اليوم ) لا سيما في السباقات المختلفة . وبالعودة إلى الساحة السعودية ، فإن أهم وثيقة تحتفي بالهجرة النبوية هي الملعبة الشهيرة بين عبد الله المسعودي ومطلق الثبيتي، وبدأها المسعودي مرحبًا بقوله (14) : نهاية يوم ذا الحجة بداية ليل من عاشور .. هلا يا مرحبا والمملكة باحلى لياليها .. ورغم قصر ذلك الطاروق (القاف) إلا أنه مليء بالإشارات التاريخية والثقافية والمعاني العميقة ومنها : 1– تسمية شهر المحرم كله (عاشور) : وهي تسمية يظهر لنا أنها ترسخت في الثقافة الإسلامية منذ اعتمد عمر بن الخطاب التقويم الهجري ؛ حيث إن المحرم هو عاشر الشهور بعد الهجرة التي كانت في ربيع الأول – كما أسلفنا - وإن كان محرم أول السنة القمرية ! بمعنى : أنه لا علاقة لنجاة موسى وقومه من فرعون ، ولا لمقتل الحسين بن علي بهذه التسمية إطلاقاً !! 2 – أن الليل – غروب الشمس - هو بداية اليوم عند العرب والمسلمين ؛ وليس النهار كما هو شائع في زمننا هذا ! 3– أن الشعب السعودي في الحجاز تحديداً كان يحتفل بيوم الهجرة علنًا ويمارس الطقوس الشعبية السائدة في العالم الإسلامي بما فيها من خرافات وشطحات ليست من الدين الحق ! 4- لا شك أن المحاورة تحتمل كثيرًا من المعاني وتتسع لكثير من التأويلات ولكن المعنى الإجمالي العام - فيما يبدو - هو حوار شرس بين المملكة العربية السعودية وخصومها من ذوي الآيديولوجيات الضالة ، والأهداف السياسية المغرضة ؛ من القوميين ، والشيوعيين ، والاشتراكيين ، والبعثيين ، والإمبرياليين ، وما يسمى بالإخوان المسلمين ، والمتاجرين البراجماتيين بالدين والشعارات البراقة. 5 - أن عبد الله المسعودي يمثل المنهج السعودي الرسمي المعلن بقوله في البيت الثاني : أنا ما همني في الوقت لا مطلق ولا مستور .. مركّبها على قمة جبل وتهز رجليها ! ويرمز بمطلق لخصوم المملكة الظاهرين علنًا ، وبمستور للمندسين والمنافقين ! أما الضمير في قوله (مركّبها) فيعود على الراية السعودية التي تحمل الشهادتين . والمعنى : أن الدولة السعودية قامت على أساس متين هو خدمة الدين الصحيح ولن تعبأ بما يعلنه خصومها المطلقون الأحرار ، ولا بما يدسه الجبناء المرجفون !! 6– يؤكد مطلق الثبيتي أنه اقتنص المعنى فيقول : أنا أشوف المدافع فالمحاجي والفرود تثور يدوم إلك البقا وانته جملها وانت راعيها .. ففي الشطر الأول يثنِّي على أن الشعب السعودي في الحجاز كان يحتفل بيوم الهجرة النبوية . ويرد التحية في الشطر الثاني مؤكدًا أنه قبل التحدي ليمثل الطرف النقيض للمسعودي والمملكة كما يقضي قانون الملعبة الصارم ! وفي قوله : (وانته جملها وانت راعيها) وعيد سافر وغمز ماكر بأن ممثل المملكة لن يجد من يؤيده ، ولن يستمر طويلًا في القيام بدور الجمل والراعي ؛ فالعالم كله ضد الموقف السعودي !! 7- وفي البيت الثاني يزيد المعنى قوة : تقوله وانت محني في يديّه حنية الباكور وانا اللي من قديم الوقت طابخها وشاويها وفي هذا تذكير للمسعودي بسقوط الدولتين الأولى والثانية ؛ اللتين كانتا تحملان الراية السعودية ذاتها ! 8 – يقول المسعودي في الجولة الثانية : عينت الشايب اللي لقمته ما وصلت الحنجور : فضيحة لن تفلها وان بلعها سمها فيها ؟!! وهو تصويرعبقري لحساسية الموقف السعودي ؛ فرغم أن الدولة قامت على تصحيح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات المتجذرة في ثقافة الشعوب الإسلامية إلا أنها مضطرة لدعوة المخالفين لها واستضافتهم معززين مكرمين متى أرادوا العمرة والحج ! أعداء الخارج سيعتبرون ذلك حقًا واجبًا لهم ، ولن يتورعوا عن ابتزاز الدولة وتحقيق أقصى ما يستطيعون من مكاسب مادية وسياسية ؛ بينما سيتَّهم المتشددون في الداخل الدولة بالضعف والنفاق والرضا بالدنية في الدين ! 9- وبذلك ينتقل المسعودي من المعنى الإجمالي العام إلى المعنى الخاص ، ويكاد يعلنه في البيت التالي : من اول يا ذهبنا كنت في صندوقنا مصرور وذالحينة تشالبك الحرامية بياديها ! هل يعني نعم الله الكثيرة ظاهرة وباطنة ؟ أم يريد الذهب الأسود (النفط ) لا غير ؟! وفي كلتا الحالين : من يقصد ب(الشايب اللي لقمته ما وصلت الحنجور)؟! الملك عبد العزيز ، الذي ظل نحو عشرين عامًا يحاول إقناع الإنجليز بوجود النفط في الضفة الغربية للخليج كما وجد في ضفته الشرقية (إيران) دون جدوى ؟ ثم دعا الأمريكان وأقنعهم بالمغامرة على حساب الدولة الحديثة التي لم يكتمل تأسيسها بعد ؟ وما إن تحققت المعجزة واكتشف النفط في الظهران حتى قامت الحرب العالمية الثانية ؛ ليتوقف الإنتاج الذي لم يبدأ حتى نهاية الحرب ، ومات الملك عبد العزيز ودولته مثقلة بالديون؟ أم يكون الشايب هو الملك سعود الذي لم تمض على بداية حكمه ثلاث سنوات حتى وقع العدوان الثلاثي على مصر 1956م ليتخلى عن الحياد ويعلن وقوفه مع مصر ماديًا ومعنويًا ، وسرًا وعلانية ، وبالسلاح والرجال ؟! (16). 10- يأتي الحسم من محامي الخصوم مطلق الثبيتي في نقضه قائلًا : عينت الطرقي اللي شق قدره شعلة الدافور ليا جاته ضيوف الله يزري لا يعشيها ؟! فإن صح فهمي ؛ فالطرقي – ومن مرادفاته الضيف وعابر السبيل – وتصغيره (الطريقي) وهو معالي المهندس (عبد الله ابن حمود الطريقي ) (17)، أول وزير للبترول والثروة المعدنية في المملكة العربية السعودية ، وبالتالي فإن الشايب قد يكون الملك سعود وقد يكون الملك فيصل ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك ؟! وبالعودة إلى سيرة الوزير الطريقي (1919- 1997) م نجد أنه تدرج في العمل في شركة أرامكو- الأمريكية بالكامل في ذلك الوقت – إلى أن أصبح هو وحافظ وهبة أول سعوديين يدخلان مجلس إدارة الشركة بضغط من القيادة السعودية . واشتهر بمواقفه المشرفة مع أبناء وطنه والعمال غير الأمريكان والأوروبيين ، وهو صاحب العبارة الشهيرة : "بترول العرب للعرب". كما كان هو صاحب فكرة إنشاء منظمة أوبك (1960) م مع الوزير الفنزويلي (خوان بابلو ألفونسو بيريز). ولهذا اتهم الطريقي بالاشتراكية والشيوعية ، وهي الفزّاعة التي دأبت الرأسمالية في أميركا وأوروبا على رفعها في وجه من يهدد أطماعها في الشرق والأمريكتين بل في أوروبا والولايات المتحدة نفسها كما يتهم الديموقراطيون اليوم !! ولا شك أن الشاعرين المتميزين على اطلاع وعلم بتفاصيل الأحداث عبر الإذاعة والصحف والمجالس والصالونات الثقافية ، بل إن الثبيتي كان مبتعثًا للدراسة في لندن ويتقن اللغة الإنجليزية ما يتيح له الاطلاع على وسائل الإعلام الغربية والأميركية!(20) وفي قوله : "شعلة الدافور" إشارة ذكية إلى أن الطريقي كان يعارض هدر الغاز بتركه يتبخر في الجو ووضع خطة عملية لتجميعه واستثماره فيما يعرف ب(الغاز المسال) ونال براءة أختراع بذلك . 11- وقد اختلف المتابعون في تحديد تاريخ تلك المبادعة (الملعبة) ، والراجح عندي أنها جرت في أوائل الثمانينات الهجرية / الستينات الميلادية مع بداية البث التلفزيوني والإذاعي في الرياض في أوج الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي الشيوعي والمعسكر الرأسمالي من جهة ، وبين إسرائيل والعرب من جهة ، وبين الأنظمة الملكية العربية والأنظمة الجمهورية من جهة ثالثة ، وبين الملك سعود والملك فيصل من جهة رابعة، وكانت السعودية في صميم كل تلك الصراعات لأهميتها السياسية والاقتصادية والجغرافية .(18) 12- في خضم هذه الأحداث لم يتردد خصوم المملكة عن الاصطياد في الماء العكر لإثارة البلبلة ! فيقول الثبيتي ممثلهم في هذه الملعبة : وأنا ماني بشايل لي عصاةٍ راسها مشقور لكن التاجر اللي جابها لازم يوديها في الشطر الأول : يرى الخصوم أن المملكة في سياستها الاقتصادية منقسمة (راسها مشقور) بين الاشتراكية والرأسمالية . أما في الشطر الثاني فهو يرفع شعار توزيع الثروات على بقية الأقطار العربية وتأميمها طبقًا للنظام الاشتراكي ، ومعاداة الرأسمالية بلا هوادة . 13- يواصل ممثل المملكة – عبد الله المسعودي – تفنيد أباطيل خصومه في الجولة الأخيرة قائلًا : ألا يا صاحبً ما يشرب ألا السكّر المعصور ديارً مابها الا الشوك لو يسيل واديها في الشطر الأول يتهم خصمه بتعاطي المسكرات الشعبية كالسوبيا والعرق والحشيش ! وهي من التهم الشائعة التي يقذف بها موظفو أرامكو في ذلك الوقت ! وفي الشطر الثاني يحاول إيقاظ صاحبه من الوهم والانخداع بالشعارات الزائفة التي تبشر بها الشيوعية والقومية والبعثية ويشبه تلك البلدان بالأرض اليباب التي ليس فيها إلا الشوك فلن يفيدها الماء حتى لو ملأ الوادي ! ولعله يشير إلى المثل القائل : "إنك لاتجني من الشوك العنب" !! 14- أما في البيت التالي فيتهمهم صراحةً بالعمالة لبعض الأنظمة والخيانة الوطنية : تصيح بها مع المغرب وتقهرها طلوع النور شداد فوق غاربها وحبل فوق أذانيها يشير إلى المؤامرات والدسائس التي تجري تحت جنح الظلام ، وتتوقف مع طلوع النور ، وهي مسيَّرة بيد بعض الأنظمة الحاقدة على المملكة !! 15- هنا يحدث لغط من الصفوف والجماهير يضطر عبد الله المسعودي أن يتدخل ويرجو من الصفوف الانضباط ؛ ما يعني أن اللغط كان بقصد التشويش على مطلق الثبيتي لأنه يمثل خصوم المملكة ، تمامًا كما يحدث للراوية (الحكواتي) في المقاهي الشعبية حين يتوقف عند هزيمة البطل ووقوعه في الأسر ويعد بالمواصلة في الليلة القادمة ؛ فتنفجرالجماهير غضبًا وتمنعه من المغادرة ، وربما لاحقته إلى داره وهددته بالضرب حتى يكمل ويخرج البطل من الحبس ليأخذ بثأره . أما إن أنهى الحكاية بموت البطل فلن تتركه الجماهير حتى يغير النهاية !! 16- ويبدو أن الثبيتي رضخ لرغبة الجماهير في تغيير الطاروق (القاف) ولكن بعد أن تهكَّم منهم ببيت في غاية السخرية : أنا أشوف السمن سايل من القَبَّة ليا الزبزور تصلّح وجهها مير الكوايا في علابيها وهي صورة بدوية لاذعة ؛ حيث كانت البدويات يستخدمن السمن (الودك) لتنعيم شعورهن ووجوهن بينما مؤخرة رؤوسهن وأعناقهن مليئة بآثار الكي الذي كان هو الطب الأول والأخير منذ ولادتهن !! وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن تهمة الرجعية والبداوة تلاحق السعوديين منذ قيام الدولة الأولى ! المحور الرابع : كيف ننقّي الموروث الشعبي ؟! كان من البدهي أن تستثمر الصحوة هجرة النبي لبعث الثقافة الإسلامية في الشعوب التي كان من أشد أدبيات الصحوة وصفها بالجاهلية المعاصرة (20). ومن ذلك النشيد الشهير : (الهجرة رحلة هادينا)(21) . ومن السهولة تمييز النفس الإخواني المحتقن في المقطع الذي يقول : بالروح سنحمي المختارا ونقاتل عنه الكفارا عهدًا لله نبايعه .. جندًا لله وأنصارا وظل هذا النشيد يغنى في السعودية – رغم تفسيق وتبديع الاحتفال بالهجرة رسميًا - في المدارس ورياض الأطفال والكشافة والجوالة ، والمسرح المدرسي والجامعي . وكان المنشدون السعوديون يتسابقون إلى إصدار الكاسيتات التي تباع علنًا دون فسح من الإعلام ! وكان يمكن الاكتفاء بالإشارة العابرة إلى البصمة السعودية التي تحرم الموسيقى والدفوف والتصفيق باليد ؛ لكن من يستعيد ذلك النشيد بالنسخة السعودية لا بد أن يتوقف عند المقطع القائل : وبسرِّ القوم الأشرار بنت الصديق توافيه ! والمقصودة بذلك - بتواتر الأخبار وإجماع المصادر- هي : (أسماء بنت أبي بكر) لكنها أصبحت في النسخة السعودية: (ابن) الصديق !(22). وفي ذلك دليل دامغ على جرأة الصحوة السعودية على تزوير التراث والعبث به ؛ فما وافق هوى روادها فهو الحق وما خالف أهواءهم فهو غير صحيح حتى وإن جاء في الصحاح أو قال به جمهور الفقهاء والمفسرين بمن فيهم ابن باز وابن عثيمين !! وبمسح سريع لأقسام الرسائل الجامعية في مكتبات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وجامعة أم القرى بمكةالمكرمة ، والجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة نجد أرتالًا من البحوث والدراسات التي تجرّح كثيرًا من الروايات الصحيحة ، وتلوي أعناق النصوص وتستبدل بها روايات ضعيفة أو شاذة بل موضوعة أحياناً . والأمثلة أكثر من أن تحصى ؛ مايجعلنا نقول باطمئنان شديد : إنه لم يبق في التراث الإسلامي شيء : "فكأنما كتبُ التراث خرافةٌ .. كُبرى ؛ فلا عمرٌ ولا خطّابُ " كما يقول نزار قباني ! والسؤال الأجدر بالطرح هنا هو : كيف ننقي كتب التراث من عبث الصحوة ؟! وللإجابة نوصي بالتالي : * تكثيف الجهود الرامية إلى فحص تلك المكتبات وإتلاف الغث الزائف منها بلا مواربة . * دعوة الباحثين المتخصصين للتأليف والرد على العبث الصحوي وإطلاق حريتهم بلا تحفظ. * بعث علم الجرح والتعديل المعطَّل منذ قرون وتطبيقه بصرامة تحقق الأمانة العلمية . * نشر نتائج البحوث العلمية في كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ومنصات السوشال ميديا لتصل الحقائق لأكبر عدد ممكن . * الشفافية المطلقة في ضمان حق التعبير لكل طرف.
الهوامش : * كتب السيرة النبوية وأشهرها: سيرة ابن هشام، والرحيق المختوم للمباركفوري . وعبقرية عمربن الخطاب لعباس محمود العقاد. * محمد غنيمي خلال – في النقد الأدبي الحديث و شوفي ضيف - عصور الانحطاط وطه حسين – مع المتنبي في ديوانه ، وغيرهم . * سليم سحاب – الفن العربي في القرن العشرين – ص 65ومابعدها . * أحمد شوفي – الشوقيات والشوقيات المفقودة. * بيرم التونسي _ سيرته في مقدمة المجموعة الكاملة . * سليم سحاب – سابق. * https://youtu.be/8QR9oqzhWEs * عبد الله عبد المحسن الماضي – نشأة الإخوان ونشأة الأرطاوية – ط2 2012م . * لقاء محمد رضا نصر الله مع مصطفى العقاد – https://youtu.be/TkXgscU1sQg. * المقابلة مع علي الظفيري – قناة الجزيرة الإخبارية https://youtu.be/fM6I1uibWpQ . * تفسير سورة العنكبوت – تطبيق الشامل في التفاسير. * عبد الحمد جودة السحار – محمد رسول الله والذين آمنوا معه – كتاب ظهر في الخمسينات الميلادية ومسلسلة تلفزيونية من إخراج أحمد طنطاوي (يوتيوب). * الأدب الشعبي في الحجاز - عاتق غيث البلادي دار مكة للطباعة والنشر - 1402ه - 1982م وتارخ مكة – أحمد السباعي – دار مكة - ط4 1405ه. ومرآة الحرمين – إبراهيم رفعت - دار الكتب المصرية – ط1 1925م . 15 – https://youtu.be/z0Kl00KL1js المسعودي ومطلق . 16- حافظ وهبة – خمسون عامًا في جزيرة العرب – الأهلية للنشر – الأردن 2019م. 17- محمد عبد الله السيف - عبد الله الطريقي صخور النفط ورمال السياسة – دار رياض الريس – بيروت. ط1 2007م 18 – عبد الرحمن الشبيلي - قصة التلفزيون في المملكة العربية السعودية – ط1 2014م – الرياض . 19- مطلق حميد الثبيتي – ديوان أندلسيات – ط 2- النادي الأدبي بالطائف 2003م. 20- محمد علي الرباعي – الصحوة في ميزان الإسلام وعاظ يحكمون عقول السعوديين – دار رياض الريس – بيروت 2010م. محمد السحيمي - كاتب وروائي سعودي