في ما يتصل بالطرب والغناء لم أحاول البحث عن نشأته وتاريخه ولا عن موقف الدين منه، نشأت كأي طفل يطربه الشعر حين يغنيه الشاعر متى ما كان صوته جميلاً، وكم تمنيت أن أكون شاعراً يخوض غمار المحاورات، كم كانت تطربني بعض ألحانهم وتسجلها الذاكرة لأغنيها لاحقاً ومثلي كثير من أقراني. نافذتي على العالم حالي حال المجتمع آنذاك المذياع، كنت أتسمر مع والدي ومن معنا حول ذلك الصندوق السحري انتظاراً لبرنامج- من البادية- تقديم مطلق الذيابي، رحمه الله، وكم كان يجذبني صوت الشاعر مستور العصيمي غفر الله له. كبرت ودخلت المدرسة والراديو رفيق السهرة المحدودة، وبدأت أسمع من خلاله غناء لم تعهده أذناي وبآلات لم أكن أستبين ماهيتها، كان ينساب منه صوت لا كالأصوات "صبح صباح الخير من غير ما يتكلم، ولما غنى الطير ضحك لنا وسلم". بين جفني راحت الأطياف تحكي عن منانا... وتغني في الليالي بأناشيد لقانا فتح الدهر ذراعيه فخلناه اصطفانا... وصحى الورد مع العطر المندى ودعانا ففرحنا ومرحنا وانطلقنا في صبانا... ذكريات ليتها ترجع ما في العمر كان آه منها لست أدري كيف ضيعنا الحنانا... فانطوى كالليل والأفراح تاهت عن هنانا... الأغنية الأولى كانت تتردد كثيراً وبخاصة في الصباح. كبرنا وكبرت معنا ذائقتنا فزاد استماعنا لذلك الصوت النقي والإحساس الأنقى، صوت مختلف عما ألفته آذاننا، تسمعه القلوب قبل الآذان، كان صوته وأوتار عوده يتقاسمان التطريب. لم يكن صوت الأرض طلال مداح، يرحمه الله، لينافس فلان وعلان، بل عاش محباً للجميع وداعماً لمن جاء بعده بكل حب وصدق . رحل عنا قبل 22 عاماً وما زال- في القبر يكبر- دعاء ومحبة صادقه له. جاء مساء الأربعاء 1 فبراير 2023 ليتم تكريم هذا الموهوب العبقري بطريقة مختلفة حشد لها عشرات الفنانين والفنانات من كل الوطن العربي لتنقله أكثر من 40 قناة فضائية، كل الفنانين غنوا ذلك المساء واجتهدوا كثيراً وغنى كل منهم بعض أغاني الراحل في ثنائيات أغلب فترات السهرة تكريماً له ولإبداعه. لكن كان هناك مسافة كبيرة بينهم وبين ذلك العملاق مع وافر الشكر والتقدير لهم جميعاً، ليثبت لهم وهو في قبره- رحمه الله- فرادته وعلو كعبه. كانت ليلة بحق بمثابة استفتاء على عبقرية الراحل الفنية التي وضعته في الصف الأول مع كبار فناني الوطن العربي مثل محمد عبدالوهاب وفريد وعبدالحليم ووديع الصافي وعبدالهادي بالخياط، وكلهم أشادوا به أيما إشادة، وصف الموسيقار بليغ حمدي أداء طلال وصفاً حقيقياً "يغني طلال دونما - فتونة - يسيطر على النغم ولا ترى عروق رقبته حين يغني" عبقريته الطربية، رحمه الله، امتزجت ببساطته وعفويته ليكون رائداً للسهل الممتنع، أطلق عليه موسيقار الأجيال- زرياب- كان يقدم أعماله الفنية دونما ضجيج ويترك لأهل الطرب والمغنى الحقيقي الحكم، لكن على طريقة المتنبي دون قصد منه: أنام ملء جفوني عن شواردها... كان ذلك المساء واحتفاليته بصوت الأرض بمثابة اعتذار للإبداع الذي كاد يغتاله الظلام في فترة ما. أعني الإبداع الفني من شعر ومسرح وغناء... شكراً بحجم الوطن لقيادتنا التي أحدثت التحول والتغيير، شكراً أن أعادت للإبداع اعتباره بعيداً من الوصاية. شكراً لصاحب الفكرة غير المسبوقة بهذا المستوى من التنظيم والإبهار والحشد الإعلامي... حفظ الله الوطن . نقلا عن الوطن السعودية