في كل عام تزداد مساحة الرفوف وصفوف الكتب التي تطرح في المكتبات ومعارض الكتب وتوزع أيضا كهدايا مجاملة بين الرفاق واألصدقاء والمسؤولين، وهي ظاهرة تبدو جيدة حينما ننطلق من فهمنا لقيمة التأليف ونتاج العقول وتقدم العلم والمعرفة اإلنسانية. بيد أن هذا اليقين يبدأ في االهتزاز حينما نجد أنفسنا أمام طوابير من المؤلفين والمؤلفات الذين يحوم جل نتاجهم التأليفي حول ما يشبه الخواطر واألشعار والسير المفرغة من الدروس والربط بالواقع اإلنساني والروايات التي ال تحمل حبكات يعتد بها ويمكن أن تحيلها يوما لنتاج سينمائي أو تلفزيوني أو حتى إذاعي معتبر! مشهد معاصر يجعلنا نشعر أن جل مجتمعنا كتاب ومفكرين وأدباء وروائيين وشعار فال تعلم من يقرأ لمن؟ ومن يكتب لمن؟ بل تكاد تجزم أن بعض هذه المؤلفات الا تتجاوز في تأثيرها الفعلي قلم كاتبها الذي يرتكز طرفه الفاخر على ناصية جيبه العلوي! الكتابة والتأليف ليست ترفا من حيث المبدأ! وحينما يفكر أحدهم في الكتابة فإن ألف سؤال وسؤال يجب أن يتراقص أمام عينيه! ومنها: هل أنا فعال أمتلك القدرة على الكتابة؟ ما هي المهارات التي أمتلكها وما تلك التي أحتاجها ألكون كاتبا؟ هل المجال الذي سأكتب عنه حي أم ميت؟ مطلوب أم مغرق بالنتاج السابق؟ من هي الشريحة المستفيدة مما أكتب؟ وهل لهم وجود فعلي في المجتمعات التي أنوي نشر مؤلفي بينهم؟ هل كتبت ما كتبت ليقرأ أم ليصطف على الرفوف مع بقية الكتب المسجونة منذ سنين في ذات المكان؟ هل استشرت أهل القلم والدواة قبل أن أقدم على هذه الخطوة أم أنها نزوة تنتظر غالف الكتاب المزخرف والصفحة الاولى التي سأوقع فيها للمهدى إليه وفالشات الكاميرات حولي يكاد يذهب وميضها بالابصار؟ كل هذه التساؤالت مهمة بل إنها واجبة في زمن غال فيه سعر الورق واألحبار والطباعة والتسويق والشحن والتوصيل والتقنية لينتهي األمر بمنتج ضئيل ال يساوي ما صرف عليه من وقت ومال! الكتابات التخصصية أصبحت تشعر بغربة في النتاج المحلي تحديدا فجل القوم هائمون ومغرمون ومتيمون بالجمال لذا فهم ال يملكون وقتا لمساءلة النظرية النسبية، أو فهم لوغاريتمات التقنية المعاصرة أو فك رموز الظواهر الطبيعية في المساحات الجغرافية المتناثرة على كوكبنا الحالم! المساحة العلمية تختنق وربما تحتضر في غضون بضع سنين أمام زهور العشاق وإيحاءات العذال وتورية وجناس وطباق أهل الهيام والجوى! حسرة مطبقة أننا لا نكاد نرى نتاج لغوي تخصصي وال فيزيائي نظري أو تطبيقي مبهر، وال وجود قوي لكتب في الرياضيات والجيولوجيا والبرمجيات والفلك، والا نتاج حول معدات الدفع والرفع والتعليق والتخصيب واألجنة والطب الجزيئي وفروع الهندسة الميكانيكية والكهربائية والحاسوبية واإلنشائية وقل ما شئت! إن ظاهرة التأليف ليست دوما ظاهرة إيجابية! بل ربما كانت سبيال لمزيد من تسطيح األفهام وتقزيم المعرفة إذا نحت منحى التكرار في محتواها الذي يقدم الفرع على الأصل واللهو على الحاجة والتأمالت على الحقائق والعواطف على العقول والمساحات العامة التي تحتمل الخطأ والصواب على المساحات التخصصية العميقة التي تدفع بعجلة التقدم وتيسر حياة البشر وتصنع لهم مستقبال أمثل. ولا أستطيع أن أغادر هذه المساحة قبل أن ألقي بلوم ال ينقطع على بعض دور النشر التي أصبحت كالقطار البخاري في مدن المالهي والذي يمكن ألي أحد أن يتعلق به لبطء سيره وسهولة التشبث به، مع يقيني التام أن قوة دور النشر معقودة ببراعة المؤلفين الذين يطرقون أبوابها بنتاجهم المعرفي عدة مرات فما تزال تردهم مرة تلو الأخرى لينقحوها ويوثقوها ويتأكدوا من محتواها قبل أن يؤذن لهم لينالوا شرف النشر من خالل تلك القلعة وحينها يكون المؤلف بارعا والمحتوى رصينا والناشر بطلا @dralaaraj نقلا عن صحيفة مكة