الحديث المُرُّ والموجع عن هجرة الأدمغة «العقول» العربية للخارج بحثًا عن الأمان والرزق الكريم والفرص البحثية والعلمية والعملية، والدعم المعنوي والمادي، يجعلنا في حالة من الضعف والوهن. فهذه الكفاءات المتميزة من أبنائنا تقطف تلك الدول المستقبلة لهم علمهم وخبرتهم ونجاحتهم، فرحيل العلماء والأطباء والمتخصصين في مختلف فروع العلم تعد ظاهرة تتزايد على حساب أوطاننا العربية. ويُعَدُّ نزوح العقول العربية للخارج خسائرَ فادحة للعرب وأرباحًا هائلة وطائلة للغرب، ولعل من أهم الخسائر الفادحة التي نتكبدها، مغادرة العقول الواعية من العلماء والمفكرين والمثقفين في مختلف فروع العلم من بلدانهم. ولجوء أيضاً أصحاب الملكات الإبداعية من مخترعين ومكتشفين إلى الغرب نتيجة التضييق عليهم وعدم دعم الاكتشافات أو الابتكارات نظرًا لتراجع دور القطاعات الاقتصادية من شركات ومؤسسات وبنوك الخ، وتجاهل الإعلام لهم. وحسب بحث صدر سنة 2011 م، فإن 50 % من الأطباء، و23 % من المهندسين و15 % من العلماء في البلدان العربية يهاجرون، متجهين بوجه الخصوص إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، كما أن ما يقرب من 54 % من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم. ومن أهم الأسباب عدم توفير الدول العربية للتسهيلات والمزايا التي من شأنها أن تدعم الأشخاص أصحاب العقول والمهارات، إضافة إلى سوء البنية التحتيّة في تلك الدُّوَل وخاصّة النامية منها. هذا إلى جانب عدم الشعور بالراحة والطمأنينة؛ حيث ينتقل الأشخاص إلى دول أكثر استقرارًا؛ كما لا يمكن إغفال ارتفاع نسبة البطالة والفَقر؛ وهذا ما يسبِّب ارتفاعاً في معدَّل الجرائم؛ وبالتالي يلجأُ الأشخاص للبحث عن دوَل أكثر أمناً... ويقف أحياناً طموح الكثير من أصحاب العقول، لتحسين مهنتهم، أو إكمال دراستهم، وهو الجانب الذي يعود إلى التفضيل الشخصيِّ ومن الممكن أن يكمن التمييزُ في التعيينات، وكذلك الترقيات التي تحدُثُ في المؤسَّسات، وأماكن العمل؛ إلى هجرة تلك العقول إلى الخارج للبحث عن أماكن تقدر كفاءتها وتميزها. أيضاً انعدام الاستقرار من الناحية السياسيّة، وما يَتبعُ ذلك من انخفاض في نوعيَّة الحياة، ونَقْصٍ في الرعاية الصحيّة، ونَقْصِ الفُرَص الاقتصادية؛ ممَّا يَدفع أصحابَ العقول والموهوبين إلى تَرْك البلاد، والبحث عن أماكن تُوفِّرُ لهم فُرَصَ معيشةٍ أوفَر. وقد قدرت تقارير منظمة العمل العربية؛ أن الخسائر التي تتكبدها الدول العربية سنوياً لا تقل عن 200 مليار دولار بسبب هجرة عقولها وكفاءاتها إلى الخارج، وتقترن هذه الأرقام بالخسائر الكبيرة الناجمة عن تكاليف تأهيل هذه العقول العربية وتكبد مصروفات تعليمها داخل أوطانها وبذل الغالي والنفيس لابتعاثها وتأهيلها... إلا أنه نتيجة لسوء التعامل مع هذه الكفاءات العربية لدى العودة إلى أوطانها، إضافة إلى محاربتها وحرمانها العمل في مجال تخصصها، دفعتها إلى الهجرة قسرًا إلى الدول التي تحسن استقبالها وتجيد معاملتها وتمنحها جنسياتها لتستفيد من علمها وقدراتها. الدول العربية اليوم هي الخاسر الأكبر من هجرة كفاءاتها، وتتضاعف هذه الخسارة لتصبح أكثر خطورة نتيجة ازدياد عدد المهاجرين الأكفاء، الذين يحملون أفضل التخصصات الإستراتيجية، مثل الذكاء الاصطناعي والطب النووي والجراحات الدقيقة والهندسة الإلكترونية والوراثية والعلاج بالإشعاع وعلوم الليزر والفيزياء والفضاء والميكروبيولوجيا، وهي التخصصات التي تشجع الدول المتقدمة على استقبالها والاستفادة من المتخصصين فيها... فاليوم تتمتع أمريكا بمساهمة أكثر من 15 ألف طبيب عربي في علاج مرضاها وسبعة آلاف مهندس عربي في زيادة عوائد مصانعها و4500 عالم عربي في الفيزياء والكيمياء والرياضيات لإثراء معاهد أبحاثها... وأفاد تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي، أن أكثر من مليون عالم وخبير عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنيين المهرة هاجروا إلى الغرب خلال نصف القرن الماضي، وأن 50 في المائة من الكفاءات العربية هجرت ديارها منذ الحرب العالمية الثانية، معظمهم حاصل على شهاداته في التخصصات الحرجة والإستراتيجية... من الواضح أن هدف الدول الغربية يصبُّ في فتح باب الهجرة إليها للاستفادة من النوابغ العرب، ليصبحوا مصدرًا مهمًا للاقتصاد القومي في الدول الغربية الذي تحكمه تقنيات المعلوماتية وقوانين المعرفة ومبادئ العولمة، وليلعبوا دوراً مهماً في هيمنة الدول المتقدمة والسيطرة على دول العالم الثالث في مجالات العلوم والهندسة والتقنية والطب... في إعدادي لمقالاتي أحاول الاستفادة من اجتهادات الزملاء الذين هم في واقع الأمر أساتذتي سواء من لديهم بحوث أو مقالات تعالج هذه القضايا الفكرية لتسليط الضوء ومحاولة إيجاد الحلول لها والتصدي لهذه الظاهر، وذلك عبر التوصيات التي تحث على توفير بيئة بحث علمي وأكاديمي مناسبة وإعطاء العلماء والمفكرين القدر اللازم من التقدير والدعم الكافي الذي يُساعدهم على الإبداع في أوطانهم, ورفع مستوى الأجور وتحسين الوضع المعيشي حتى لا يلجأ الشباب إلى البحث عن فرص عمل في الدول المتقدمة، ولابد من الحرص على استثمار الكفاءات وخصوصًا في سن الشباب وتوظيف طاقاتهم بشكل صحيح وإلحاقهم بمواقع العمل المختلفة داخل دولهم... ** ** [email protected] نقلا عن الجزيرة