من دياجير الظلام ينبثق النور، ومن رحم الأزمة يولد الفرج، وقد يأتي الخير في أعطاف الشر، أليس أسلافنا من قال: اشتدي أزمة تنفرجي. ذلك هو انطباعي عن أزمة وباء كورونا التي يعيشها العالم، فعلى الرغم من كل المآسي التي حدثت جراء تفشي الوباء، وموت كثير من الناس خلال الفترة الراهنة، لكن ذلك الفيروس المتناهي الصغر، قد أسقط بضعفه تلك القوة الزائفة، التي يتشدق بها أولئك التائهون في حبائل الشيطان، من الطغاة الذين لم يكن النمرود وفرعون أولهم ولن يكونا آخرهم. وفي الوقت نفسه كشف عن قوة من اتكل على الله واهتم بالأخذ بالأسباب، وانطلق من مسؤوليته الأخلاقية الواجبة إزاء وطنه وشعبه، وكانت المملكة العربية السعودية بقيادتها في أول مصاف هذه الدول، القوية بتوكلها على الله وأخذها بالأسباب، وتلك مزية يحق لنا أن نفتخر بها، ونشكر الله عليها. في هذه الأزمة تكشفت كثير من عوار أوجه الخلل التي خيمت بآثارها السلبية على مجتمعنا بل وكوكبنا بوجه عام، وليس أقلها حالة التلوث البيئي التي صنعها الماديون بجشعهم، فكان أن ارتاحت الأرض قسرا جراء فرض حالة الحجر المنزلي، لتتوقف المصانع عن لهيبها، وترتاح السماء من أزيز الطائرات، وما أجلها من فرصة لنعيد ترتيب مسارنا الحياتي وفق ما يجب، ولعل ذلك من أكبر المحاسن وأفضلها قيمة ومضمونا. على الصعيد المحلي أعادت أزمة وباء كورونا المجتمع إلى وعيه، ليدرك حقيقة الفرق بين مفهوم الإعلام الذي يمتهن صاحبه البحث عن الحقيقة، بروح تواقة للبحث والتحري والمتابعة، وفق أسس ومعايير منضبطة، متجرعا من أجلها الصعاب، ليُخرجها بعد ذلك بشكل مجرد، ومفهوم الإعلان الذي بات مشاهير السناب يحركون مشهده، وهم الفارغون وعيا ومضمونا إلا من رحم، فأصبحوا نجوما يتم استقطابهم من قبل جهات متعددة، لتغطية أحداث مجتمعية على مختلف الأصعدة، ولكن بشكل ليس فيه أدنى مسؤولية، ولا يتقيد بمعايير المهنية اللازم توفرها حال ممارسة العمل الإعلامي بشكل دقيق، فتجدهم يسارعون إلى نقل ما يصلهم دون تحقيق، ويلتقطون صورا بهواتفهم النقالة لأي حدث يرونه دون تثبت وتدقيق، والناس من خلفهم لا يدركون حجم الكارثة التي حذرنا منها تباعا، وصحونا اليوم عليها. لكن كل ذلك قد تغير، وأرجو أن يتنامى وعينا يوما بعد يوم، حيث أعيدت مع هذه الأزمة للصحفي الحقيقي هويته من جديد، وتقدم الإعلامي المتمرس ساحة المعركة، وهو الذي تدرب في أروقة صناعة الخبر ومعامل تحليله، وتدرج في مهارات الصياغة ودلالاتها، وفي تصوري فإن ذلك انتصار ملموس قد تحقق بفضل وباء كورونا، ويجب - وعيا وإدراكا - ألا نتخلى عن هذا الانتصار حكومة ومجتمعا. وفي الجانب التقني، كشفت الأزمة مدى تقدم المملكة بشكل مذهل في تقنيات التحول الرقمي، بحيث أمكن لكل إنسان على ثراها ممارسة مختلف الأعمال الحكومية والتعليمية والاقتصادية والخدماتية والتسويقية وغيرها، عبر وسائط التقنية المختلفة، مما سهل تقديم الخدمة للناس، وكفتهم مؤونة الخروج والتنقل لإنهاء احتياجاتهم، وهو ما ساعد المملكة على مواجهة هذه الجائحة باقتدار، وفي تصوري تطبيق «أبشر» الخاص بخدمات وزارة الداخلية، وهي الجهة الأكثر أهمية وتعقيدا للمواطن والمقيم، خير مثال على ذلك، وبالتالي إذا كان تطبيق «أبشر» قد بلغ مراده بنجاح باهر، فكيف بغيره من التطبيقات الالكترونية الأخرى، كتطبيقات البنوك، ومختلف القطاعات الخدمية الأخرى، ولعل أهمها في الوقت الراهن تطبيق «موعد» الخاص بالقطاع الصحي، الذي ساعد على متابعة الحالة الصحية بوجه عام، وما يتعلق منها بوباء كورونا بشكل خاص، ولعمري فذلك نجاح كبير يحسب للمملكة وقيادتها الحكيمة، ويستحق أن نشكر الله عليه. أشير إلى أن تلك المحاسن لا تقف عند حدود ما سبق، بل تتعداها إلى مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، التي أبانت عن وعي كبير لدى المواطن والمقيم، كما لا تقتصر بتأثيرها الإيجابي على صعيدنا الوطني فحسب، بل تتعداها إلى مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية العالمية. وأجزم أن أهم قيمة يمكن أن يدركها عالمنا اليوم أنه كالجسد وحدة واحدة، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وكفى برسول الله صادقا وأمينا. نقلا عن صحيفة مكة