أعتقد الصينيون القدماء أن لوه يانغ عاصمة إمبراطورتيهم هي مركز الأرض تحيط به خمس دوائر تفصل بين كل دائرة 500 ميل. هذه المركزية الجغرافية خلقت مركزية ثقافية ترى أن سكان المركز هم الأكثر تحضراً، وكلّما ابتعدنا عن المركز قلّ التحضر، حسب المؤرخ الصيني غه تشاو قوانغ. فهل تكون الصين الحالية مركز العالم عبر طريق الحرير الجديد؟ اخترع الصينيون صناعة الحرير قبل حوالي خمسة آلاف سنة، وأتقنوا فنوناً مبهرة بحياكته وتطريزه. هذه الصناعة أذهلت الناس قديماً، فسعوا لاقتناء الحرير بشتى السبل، لدرجة أنهم كانوا يشترونه مقابل وزنه بالأحجار الكريمة. أخذ الحرير طريقه من الصين إلى أرجاء المعمورة ومعه بضائع كثيرة. لم يكن طريق الحرير واحداً، بل شبكة طرق تسلكها القوافل والسفن أهمها الذي يصل أوروبا مروراً بالهند والشرق الأوسط؛ وبواسطة هذه الطرق كانت تجري تبادلات واسعة ليست اقتصادية فقط، بل ثقافية وسياسية بين مختلف المناطق والقوميات والحضارات. على أنقاض طريق الحرير القديم يقوم الآن طريق حرير جديد عبر مبادرة صينية عظيمة الطموح لربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية بتاريخ البشرية. المبادرة أطلق عليها «حزام واحد طريق واحد»؛ لتطوير البنية التحتية والاستثمارات في بلدان أوروبية وآسيوية وإفريقية. «حزام» يشير إلى شبكة الطرق البرية، ويُسمى «الحزام الاقتصادي لطريق الحرير»؛ بينما يشير «طريق» إلى طرق الحرير البحرية. مبادرة طريق الحرير البحري اقترحها لأول مرة الرئيس الصيني خلال خطاب ألقاه أمام البرلمان الإندونيسي في 2013، تمت ترقيته للاستثمار في البنية التّحتيّة كمواد البناء والسّكك الحديديّة والطّرق السّريعة، والسّيارات والعقارات، وشبكة الطّاقة والحديد والصّلب. حتى عام 2016 ، كان عنوان المبادرة الرسمي «حزام واحد طريق واحد»، لكن تم تغييره لأن الحكومة الصينية خشيت أن كلمة «واحد» عرضة لسوء الفهم، فصار مبادرة «الحزام والطريق». المبادرة تضمنت عدة محاور: تجارية (فتح أسواق جديدة وتسريع وصول المنتجات الصينية)، ونقدية (زيادة التّبادل التّجاري بالعملة الصّينيّة)، وجيوسياسية (تحالفات جديدة بعيداً عن التّجارة)؛ تغطي 68 بلداً، شاملة 65 % من سكان العالم، و40 % من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2017 كأكبر مشاريع بنية تحتيّة واستثمار بالعالم.. من هنا ظهر قلق البعض أن يكون المشروع شكلاً من أشكال الاستعمار الجديد.. فقد ثارت مخاوف أستراليا والهند واليابان التي تشكِّل تحالفاً للحدّ من السّطوة الصّينيّة، وفي العام الماضي ألغى رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد المشاريع التي تمولها الصين محذّراً «هناك نسخة جديدة من الاستعمار يحدث!» (أخبار أي بي سي)، لكنه تراجع بعدها موضحاً أنه لم يقصد المبادرة الصينية. أما دول أوروبا فكانت بين متفائل وقلق، فالترحيب في أوروبا الشرقية والوسطى قابله تحفظ دول أوروبا الغربيّة وخاصة الشّماليّة منها؛ إذ حذَّر رئيس الوزراء الدّنماركي السّابق من أنّه يخشى أن تنتبه أوروبا متأخرة عندما تصبح شرائح كاملة من البنى التحتية بأوروبا الوسطى والشّرقيّة تابعة للصين.. فيما قال وزير الخارجية الألماني: «إذا لم نُحضِّر إستراتيجيّة لمواجهة الصين، فإنها ستنجح بتقسيم أوروبا.» بعض الحكومات الغربية تتهم مبادرة الحزام والطريق بكونها استعمار جديد بسبب ما يزعمونه من ممارسة دبلوماسية فخ الديون لتمويل مشاريع البنية التحتية؛ وأشهر مثال يذكرونه هو سريلانكا، فعبر مليارات القروض الصينية، أقيمت ناطحات سحاب وطرق سريعة ومطارات وموانئ شحن.. البلاد ازدهرت، لكن بعد بضع سنوات أصبحت عاجزة عن التسديد، والطريقة الوحيدة للخروج من الورطة هو إعطاء الصين السيطرة على ما قاموا ببنائه.. زاعمين أن هذا ما سيحصل مع بلدان كثيرة تعاني لسداد الديون الصينية. وقد حذَّرت مديرة صندوق النّقد الدولي من مخاوف دين محتملة للدول المشاركة، مطالبة بالتّركيز على سياسات ماليّة سليمة. أما رد الصين فكان واضحاً وبسيطاً على لسان رئيسها بأن المبادرة التي تقودها بكين «تتفق مع مصالح جميع البلدان».. وفيما لا يزال البعض ينوح ويلطم، قامت قبل أيام الصين وروسيا بربط أول جسر للسكك الحديدية بينهما، الذي سيوصل شمال شرق الصين بسيبيريا. في تلك الأثناء زار الرئيس الصينيإيطاليا لتوقيع اتفاق ضخم لتشييد بنى تحتية فيها مما أثار انزعاج حلفائها الغربيين وسط تنامي نفوذ الصين، وتراكم ديونها على الدول؛ لكنها السبيل الوحيد الذي بإمكانه إعادة الحياة للموانئ الإيطالية التاريخية الواقعة على طريق الحرير البحري. وكان قبلها بأسبوع أصدرت المفوضية الأوروبية تصريحاً تطرق إلى «نفوذ الصين الاقتصادي والسياسي المتنامي»، وضرورة إعادة النظر في العلاقات مع بكين، فيما حذَّر وزير الداخلية الإيطالي بأنه لا يريد رؤية الشركات الأجنبية وهي «تستعمر» إيطاليا. نعم، إنه شيء أكبر بكثير من رمزية قصة «طريق الحرير الجديد»، إنها قصة الشكوك فتعتمد على كيفية الاستفادة من التمويل والخبرة الصينية دون إلحاق الضرر باستقلال البلد.. وسنرى ما إذا كان طريق الحرير يؤدي إلى عولمة جديدة أم استعمار جديد، أم أنه كما الطريق القديم، يسعى إلى ربط الصين بالعالم، أو ربما ربط العالم بالصين؟! وفي كل الأحوال فكما الطريق القديم يبدو الجديد مغرياً لبلدان كثيرة بغض النظر عن عواقبه بعيدة المدى.. نقلا عن الجزيرة