تشهد ساحة الإدارة العامة اليوم كثيرا من المستجدات، وهي نابعة أصلا من تحولات رئيسة في علم الإدارة العامة، لكن لعل أهم المستجدات على ساحة الإدارة العامة اليوم في المملكة هي مدونة قواعد السلوك الوظيفي وأخلاقيات الوظيفة العامة، والمشكل في الأمر هو الفرق بين الحكومة والدولة في المدونة، فالدولة بلا شك أكبر وأشمل من الحكومة، ومع ذلك فإن المدونة في المادة الرابعة مثلا تتحدث عن سريان أحكام المدونة وأنها تسري على جميع الموظفين العاملين في الدولة، وهذا معناه أنها تشمل حتى القطاع الخاص ومن يعملون في كتل تشريعية مثل مجلس الشورى، لأنهم حتما يعملون في الدولة، فالدولة عبارة عن منظومة كاملة يعتلي عرشها خادم الحرمين الشريفين الذي يحكم في الناس بما أمر الله فهو يمارس حقه في الملك والولاية على الناس بكتاب الله وسنة نبيه من خلال نظام البيعة المقر في الإسلام الذي اعتمده النظام الأساسي للحكم، وتتضمن الدولة الحدود السياسية والتضاريس الجغرافية، وكتلا تشريعية وكتلا تنفيذية وكتلا رقابية، وقاعات اقتصادية متنوعة وفي المقابل فإن الحكومة تتضمن القطاع التنفيذي العام وهي تعمل على تنفيذ سياسات وتشريعات الدولة، ولها تدخلات في الاقتصاد والخدمات بما يحقق المصلحة العامة التي تستهدفها الدولة، والحكومة ككتلة تنفيذية مكونة من كتل تنفيذية على شكل وزارات وهيئات ومؤسسات عامة. المواطن قد يكون ضمن الحكومة في قطاع وزارة معينة فهو خاضع لأحكام مدونة قواعد السلوك ضمن حدود عمله، لكنه في مقابل أعمال وزارة أخرى فهو مواطن في الدولة، له حقوق كفلها نظام الحكم السعودي الذي هو أعلى نظام تشريعي في المملكة المستمد من الشريعة الإسلامية وهو بالطبع أعلى وأكثر قوة نظامية من أحكام مدونة قواعد السلوك، ولهذا يجب على مدونة القواعد ألا تخالف النظام الأساسي للحكم، وقد جاءت المادة التاسعة والثلاثون من النظام الأساسي للحكم بالاعتراف بدور وسائل الإعلام، حيث أكدت أن تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة وبأنظمة الدولة. وتسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتها وتحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو الانقسام أو يمس بأمن الدولة وعلاقتها العامة أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه وتبين الأنظمة كيفية ذلك. ونلاحظ بكل وضوح أهمية ودور وسائل الإعلام كما أن النص واضح في قضية الدولة وأمنها. وفي ظل هذا النص نقرأ مما ورد في المادة الثالثة عشرة من مدونة قواعد السلوك وهي تضع الحكومة في مقام الدولة وتحظر أي توجيه بالنقد أو اللوم بأي وسيلة من وسائل الإعلام المحلية أو الخارجية. المادة الرابعة من أحكام مدونة السلوك تضع كل من يعمل في "الدولة" تحت ظل هذه المدونة وتقع عليه أحكامها. لكن هذه المسألة تصبح إشكالية عندي في المادة الثالثة عشرة التي تنص على أنه يحظر على الموظف العام ما يلي: (3. توجيه النقد أو اللوم إلى الحكومة بأي وسيلة من وسائل الإعلام المحلية والخارجية) فهي تخص الحكومة بعدم النقد، هنا تظهر الإشكالية في الفهم، ففي نصوص مثل هذه فإن المفهوم منها أن أي نقد لأي وزارة من أي مواطن في الدولة سيعرض نفسه لأحكام هذه المادة، دون تعريف واضح للمعنى المقصود بالنقد أو اللوم، وهذا حكم واسع جدا ويصعب التعامل معه، خاصة في ظل "رؤية المملكة 2030"، التي ترفع سقف طموحات المواطن في الحكومة. حيث إن المحور الثالث من محاور الرؤية هو الوطن الطموح الذي تكون حكومته مسؤولة، وأيضا هذا يتناقض بشكل صريح مع قواعد حوكمة القطاع العام التي تعمل "رؤية المملكة 2030" على وضعها وتعميمها وقواعد الحوكمة هذه تضع رأي أصحاب المصالح وهم المواطنون سواء كانوا موظفين في الحكومة أو غير ذلك محل اهتمام، فكيف يصل رأيهم دون وسائل الإعلام المقرة في النظام الأساسي للحكم. هنا قد يقال إن هدف المدونة هو عدم النقد أو اللوم على وسائل الإعلام بينما يمكن الحديث بشكل إيجابي لكن إذا كانت المدونة تسعى إلى ذلك وتمنع النقد فإن ذلك يقلل من دور الإعلام كأداة رقابية وسلطة رابعة. فمثلا إذا تعرض مواطن يعمل في وزارة الإسكان لخطأ طبي في مستشفيات وزارة الصحة وتم عرض قضيته في وسائل الإعلام وفقا لما نص عليه النظام الأساسي للحكم وما منحه لوسائل الإعلام من حق، وإذا أكد الموطن وقوع الخطأ وانتقد عمل وزارة الصحة فإنه يعرض نفسه وفقا لأحكام هذه المدونة للمساءلة، وإذا أنكر ذلك ضاع حقه وإذا تجاهل الإعلام ولم يتحدث فيه، وإذا كان كل منا سيهرب من الإعلام خوفا من هذه المادة وتفسيراتها، فإن الإعلام سينتهي إلى تجاهل القضايا الشائكة في المجتمع وستستفحل هذه المشاكل ومنها مشكلة الأخطاء الطبية في المثال الذي أطرحه. وبهذا لن يصل الرأي العام إلى مستوى القيادة العليا والجهات الرقابية التي تقيس توجهات الرأي العام ومدى رضاه عن خدمات الحكومة كجزء رئيس من قواعد الحوكمة الجيدة. وهي المسألة نفسها إذا تعرض طبيب أو ممرض أو غيره ممن يعملون في مستشفيات وزارة الصحة للمطالبة بالحصول على حقه في السكن، أو القروض العقارية أو تم إقصاؤه لأي سبب وتم عرض هذه القضية في وسائل الإعلام فهل تتم معاقبته؟ تلك هي إشكالية فهمي للمادة (13) من مدونة السلوك، وهي في هذه الحالة تحتاج إلى إعادة نظر (كما أعتقد) وكما عودتنا حكومة هذه البلاد الراشدة من وجود مساحة حرة واسعة للإعلام طالما ليس الهدف من ذلك زعزعة الاستقرار وتأليب الرأي العام ضد الحكومة وفي نظري أن من صاغ هذه المادة لم يكن يقصد هذا التشدد، بل لعل القصد كان عدم السماح لموظف في وزارة ما أن ينتقد وزارته على وسائل الإعلام، وهذا صحيح فكيف يمكن لموظف يعمل في "الإسكان" أن ينتقد عمل الوزارة التي هو جزء منها بينما يسعه أن يقابل الوزير ويوضح له وجهة نظره، وكذلك لا يسع طبيبا أن ينتقد وزارة الصحة على وسائل الإعلام وهو جزء من منظومتها، إذا سمحنا بمثل هذه التصرفات فإن هيكل القرار ومنظومته داخل الوزارة قد يتعرضان للتآكل. لهذا كله أعتقد أن المادة 13 من مدونة السلوك تحتاج إلى إعادة نظر، كما أن المدونة تحتاج إلى ضبط عبارة الدولة والحكومة في ثناياها. نقلا عن الاقتصادية