الصحافة نبض المجتمع، ويفترض أن تكون معبرة عن هموم الناس وآمالهم وآلامهم، وهي إن لم تنقل الواقع كما هو فعلاً فستفقد صلتها بالمجتمع كلياً، ولن يجد الناس بداً من الهروب منها إلى غيرها، فحين يكون الإنسان قلقاً فإنه لن يصغي إلا إلى كاتب يشاركه هذا القلق، ولا أعني بالمشاركة أن ينساق الكاتب خلفهم، إنما أعني أن يشعر بمشكلتهم ويصورها كما هي عليه في الواقع لا كما يجب أن تكون، وإلا فإنه سيطيح من أعينهم متى ما شعروا أنه يتاجر بقضاياهم ويحاول الوصول على حسابهم، ولا أكتمكم أني ما كتبت عن القرارات الأخيرة إلا وفي نيتي أن يكون ما أكتبه هو آخر ما أقول في نفس الموضوع، لأن القارئ سيمل من تكرار الحديث وإعادته واجتراره، غير أني لا أكاد أجد الناس منهمكين في مناقشة تلك القرارات، حتى تتراءى لي أفكار جديدة وصور مخبأة لم تكن بادية لي من ذي قبل، فأعود للكتابة عن ذات الموضوع من زوايا مختلفة، ففي بداية إصدار تلك القرارات تحدث أحد الموظفين وكان يعمل في أحد القطاعات التي طالها التعديل في الرواتب بشكل ملحوظ، فقال للجالسين: "أبشركم أن رواتبنا لن ينقص منها ريال واحد، فالتغيير سيكون مختصاً بالموظفين الجدد، ومن كانوا يحصلون على بدلات وهم لا يستحقونها"، ثم يستشهد على صحة ما يقول بتسجيل صوتي وصله عبر الواتساب، و من خلال تغريدة لأحد المعرفات المجهولة في تويتر!، طبعاً أعرف هذا الرجل جيداً، وأعلم تماماً أن أي تغيير في راتبه سيغرقه. قبل شهر من الآن لو سألت أكثر الناس تشاؤماً لما كان يتصور أن تُخفَّض الرواتب بهذا الشكل، لسببين، أولهما: أن رواتب الموظفين أصلاً متدنية مقارنة بقوة بلدنا الاقتصادية ومركزه المالي، وحتى بالمقارنة مع رواتب الموظفين في دول الجوار، فهي لم ترتفع إلا بمقدار 15% طيلة السنوات العشر الأخيرة؛ رغم الارتفاعات المطردة في أسعار النفط، وما صاحب ذلك من غلاء في الأسعار وارتفاع في حجم التضخم أدى إلى انخفاض في مستويات المعيشة، وهو ما دعا الناس إلى المطالبة بزيادة الرواتب، لكن هذه المطالبات لم يكتب لها النجاح، وثانيهما: أن الدولة رفعت الدعم عن أسعار الوقود والماء والكهرباء، ومن الصعب أن يجتمع على الناس رفع الدعم وتخفيض الرواتب، إضافة إلى ما سبق ذلك من تعديلات في شروط المستحقين للضمان الاجتماعي أدت إلى إسقاط وإيقاف أكثر من 107 آلاف حالة ضمانية، ثم تلتها دفعة جديدة مكونة من 71 ألف شخص غير مستحق للضمان الاجتماعي. لعلي لا أذيع سراً حين أقول إن الناس قلقون جداً من هذه الإجراءات، بل شكلت صدمة لكثيرين منهم، خصوصاً من كانوا مرتبطين بقروض ومديونيات ملزمين بسدادها في أوقات محددة، فحتى المناسبات العامة انقلبت جدلاً في هذا الموضوع، وصار السؤال الأكثر تداولا بين الناس، كم خُصِم من راتبك؟ وكل يأتي بشواهد لأشخاص يعرفهم فقدوا جزءاً كبيراً من رواتبهم، مع أن الناس إلى الآن لم يعرفوا على وجه الدقة مقدار هذا الخصم، ولا يمكنهم إدراك مبلغ تأثير ذلك التغيير على طريقة حياتهم، لكنهم مع ذلك يتوقعون من الحكومة حلولاً عاجلة لتغطية عجزهم عن اللحاق بمتطلبات حياتهم، فإن من أسوأ المواقف التي يمكن أن يمر بها الإنسان هو شعوره بالعجز عن توفير احتياجات بيته الأساسية، وإني كلما تذكرت ذلك المقطع الشهير الذي انتشر قبل سنوات لشاب يسرق حليب أطفال من إحدى الصيدليات، ثم بعد اكتشافه يقوم عامل الصيدلية بتوبيخه وإذلاله وتصويره والتشهير به، أشعر أن الحاجة باتت ماسة لأن تسارع الدولة في إصدار بطاقة تموينية للمواطنين لضمان حصولهم على بعض السلع الأساسية بأقل من ثمنها في السوق، كما هو معمول به في كثير من الدول منذ أكثر من نصف قرن، وهذه البطاقة تصدرها وزارة التجارة والصناعة من أجل مساعدة المواطنين في الحصول على بعض المواد الغذائية الأساسية بأسعار مخفضة، وبالتالي تضمن وصول الدعم الحكومي لهم بشكل مباشر، مع العلم أن هذه الخطوة كان قد أُعلن عنها قبل 4 سنوات، وقيل إن تنفيذها سيكون قريباً؛ غير أن وزير التجارة السابق الدكتور توفيق الربيعة رحل عن الوزارة فرحلت معه، كما هو الحال في أي عمل غير مؤسسي!. كنت أتحدث مع أحد رجال الأمن في ذات الموضوع، فأسعدني جداً حين قال: صحيح أن الخصم من الراتب أضرَّ بي كثيراً ، وله انعكاسات سلبية على مستوى معيشة أسرتي، بما سيصعِّب من عملية التكيف معه، لكنه متى أصبح واقعاً فسأتقبله بصدر رحب من أجل القيادة والوطن، وأنا على ثقة تامة أن هذا الأمر طارئ، وستعود الأمور إلى حيث كانت وأفضل مما كانت، وإذا احتاج الوطن إلى ما هو أكثر فسأقدمه بنفس راضية ونية صادقة وقلب مطمئن. نقلا عن الوطن السعودية