يمر تعليمنا بحالة من الارتباك والحيرة، جراء ما نواجهه يوما عن يوم من تحديات تفرضها "العولمة، والثورة المعرفية، والتنافسية"، والتي تحتاج منا ليقظة متناهية، ويبقى الاحتياج الحقيقي لتغلغل "المواطنة" بين ثنايا هذا المثلث نهجا وسياسة وكيفية، لتحقيق التوازن والمحافظة على هُوية المجتمع وثقافته مع الانفتاح على العالم ومتغيرات القرن الحادي والعشرين الجارفة، وهذا ما أعتبره من أعظم التحديات!. المواطنة فلسفة تربوية سياسية عقلانية وجدانية سلوكية، وهي نهج يرسم في عقل المواطن خريطة متكاملة متناغمة وعادلة، تسعى إلى تنمية وعيه بمعاني حقوقه وواجباته، وترسيخ وتهذيب سلوكه، وتطوير مستويات مشاركته الفاعلة في حياة الجماعة، التي ينتسب إليها بتغليب عقيدة "الانتماء" إلى تراب الوطن فوق أي انتماء سياسي أو ديني أو عرقي أو طائفي.. وبما يقابله من نظرة إيجابية نحو الدولة، والالتزام بأداء الواجبات، واحترام الأنظمة والقوانين، وبذل الجهود للمحافظة على تراب الوطن وصيانة مقدراته ومكتسباته. ولأن السياسة التعليمية في المملكة كانت تهدف لتنشئة وإعداد "المواطن" الصالح وفقاً لقيم المجتمع، وحتى يصبح قادرا على إتقان عمله، والتعاون مجتمعيا بتنمية معارفه الإنسانية؛ فقد قامت وزارة المعارف (بمسماها السابق) 1417ه بإضافة مقرر للتربية الوطنية كمادة مستقلة في التعليم العام، غير أن ذلك لم يكن مقنعا بمخرجاته السلوكية، كونها أولاً جعلت من تربية المواطنة "مقرراً دراسيّاً" ولم تجعله "منهجاً" في التعليم العام وصولاً إلى التعليم العالي، وما جعل التجربة أكثر تعقيداً أن نظامنا التعليمي خلط فيها بين الأهداف الإدراكية "المعرفية" التي تعنى بتعليم الأفراد المهارات والمعارف نحو المواطنة، وبين الأهداف القيميّة التي تعنى بإعداد الأفراد كي يكتسبوا المواطنة أصلاً، وتقديمها للعالم بالشكل الصحيح!. ما جعل التجربة تعجز عن إمداد النشء بالحقائق والمعارف عن تاريخ وطنهم وحضارتهم ومقدراتهم، ومخاطبة "وجدانهم" ليكتسبوا منظومة قيم وأخلاق تُنمي لديهم مشاعر الفخر والاعتزاز، وتحفزهم على العطاء والتضحية، لتمدهم بالمهارات الكافية سلوكاً في كل الاتجاهات الحياتية التي تؤهلهم للتميّز والإبداع عمليّاً من جهة، وبالقدرة على التمازج إيجاباً مع حضارة وطنهم، وتقديمها عالميّاً والدفاع عنه من جهة أخرى. المواطنة ليست "مقرراً دراسياً" يحفظ، ولكنها "منهج" سلوكيّ، ومنظومة حب تحتوي على غايات كبرى ومعانٍ عميقة تؤكدها مواقف واحتياجات مجتمعنا في زمن متسارع ومتغير، يحتاج إلى ترسيخ الهوية الحضارية "السعودية"، بتصميم كافة "المناهج التربوية" بحيث تُترجم الكفايات المعرفيّة والوجدانية للربط بين المواطن والوطن، وبخبرات يكتسبها طلابنا قيمة وسلوكاً؛ والأهم من ذلك أن يُشرف على تلك المناهج قياديون أكفاء، وأكاديميون ومعلمون "يؤمنون" حقيقةً بالمواطنة ومعانيها أولاً، وبذلك لا تكون هنالك فرص أخرى لاختطاف العقول الطريّة بالمناهج الخفيّة، لأننا ساعتها سنعود إلى المربع الأول!. نقلا عن الرياض