لقد بات من المعلوم لدى شريحة كبيرة من المجتمع، السمات السلبية لبعض الشخصيات والقيادات الإدارية، وآثار ذلك على أداء وإنتاجية الجهات الحكومية، والتي منها على سبيل المثال: الحب المفرط في الذات، وبالتالي النظر إلى المصلحة الشخصية أولا وقبل كل شيء، فتظهر مساوئ خطيرة وهي اتجاه الرئيس أو المدير الإداري إلى "الفساد"! إضافة إلى ما سبق، يتساءل كثير من البيروقراطيين وبكل براءة وسذاجة عن سرّ تمسك البعض بالمناصب الإدارية بالرغم من بلوغهم سن التقاعد، أو تحقيقهم مراتب عليا في السلم الإداري، فضلا عن وضعهم الاقتصادي الجيد من امتلاكهم عقارات أو شركات؟! فلماذا لا يطلبون التقاعد ويرتاحون من عناء الوظيفة؟ يقول علماء الاجتماع إن "عقدة السيطرة" سمة اجتماعية مميزة، فهي مقياس الجاه والصدارة، ولهذا يسلك الموظف العادي وكأنه صاحب نفوذ وقوة وهيمنة، فبدلا من أن يؤدي الخدمة للمواطن بالسرعة المتوخاة والجودة المطلوبة، يسعى الموظف إلى عرقلة المعاملات الإدارية حتى يفرض هيمنته على المراجعين، والمواطن بدوره يتقبل هذا الوضع، فيلجأ إلى الواسطة أو الرشوة. ومما سبق، تتضح الأسباب الاجتماعية والثقافية لبعض السمات الإدارية السلبية لبعض المدراء والرؤساء. والباحثون في هذا المجال أشاروا بشكل مقتضب إلى هذه الأسباب وبشكل مجمل للأسف، فعلى سبيل المثال يرى كثير من الباحثين أن أسباب الرشوة تعود إلى أسباب اقتصادية بحتة كالفقر وعدم وجود الحوافز للموظف.. ولكن يا ترى ما أسباب رشوة الموظف الغني ذي المنصب الرفيع؟ فالرشوة هنا قد تعد من باب التكريم في الثقافة الاجتماعية، فهي نوع من التعظيم للمسؤول النافذ في الجهة الحكومية! كيف يفسر علماء الإدارة النتيجة القائلة إن "معظم المدراء العرب يميلون إلى حب الظهور والتباهي وإشارة البنان بصورة لافتة للنظر ومبالغ فيها"، كما يمتاز المدير العربي بإصراره على تحقيق رأيه وعدم سماع آراء الآخرين حتى لو كانت أفضل من رأيه، عادا أخذَ رأي الآخرين ضعفا في قدراته ومهاراته؟! لقد وضع علماء الإدارة قائمة من الحلول والمقترحات لمعالجة هذه المشكلة، ورغم أهمية هذه الحلول إلا أنها لا تلامس الأسباب الحقيقية التي تقف وراءها، لذا كانت هذه الحلول مجرّد آراء نظرية لا ترتبط بالواقع الاجتماعي والثقافي وبالتالي صعوبة تطبيقها. والآن أنقل للقارئ الكريم، صورة بيروقراطية نمطية تحكي عن حال بعض القيادات الإدارية في الجهات الحكومية، والتي نستخلص منها بعض الأسباب الاجتماعية التي تقف وراء السمات السلبية في الإدارة الحكومية: في غياب التنظيم الإداري المتدرج الصلاحيات والمسؤوليات، يمارس المدير السيطرة والهيمنة عن طريق التقاليد والأعراف الاجتماعية، فالرئيس أو المدير الإداري في مكتبه لا يضحك، ولا يمزح، لأن في ذلك نوعا من التقارب مع الموظفين، ما يحد من هيمنته وسلطته. كما أن الرئيس الإداري لا يقوم بزيارة موظفيه، لأن فعل الزيارة يرفع من شأن الموظف ويحط من شأن الرئيس، وفي الأعراف القبلية عند المصالحة مثلا، يقوم طالب الصلح الضعيف بزيارة خصمه القوي أولا، وتبادل الزيارات لا تكون إلا بين الفئات المتساوية في المنزلة الاجتماعية. في مكتب الرئيس، هناك قواعد خاصة يجب احترامها وخاصة في الاجتماعات، فكلما اقترب كرسي الموظف من مقعد "الرئيس" ارتفعت منزلته على أن يكون الجلوس إلى يمين الرئيس لا إلى يساره، لأن هذه الجهة مكروهة في المجتمع وبالطبع فإن في حضرة الرئيس، لا رئيس غيره هو الآمر والمسيطر، وتتجلى هذه السيطرة في طريقة الدخول إلى مكتبه وطريقة السلام عليه، فنجد الوقوف الجماعي من قبل الموظفين لحظة دخول الرئيس، وانحناء الرأس وإلقاء السلام دون مصافحة باليد يرمزان إلى الاستجداء، وهذا الدور لا يقوم به إلا المستضعفون في الجهة، أما المصافحة والتقبيل فيدل على الولاء والود المتكافئ. وهناك حركات ومؤشرات أخرى تدل على ضعف الموظف وقوة الرئيس، مثل طريقة الجلوس أمامه، فالرئيس قد يضع رجلا فوق رجل، أو يمد قدميه أمام الموظفين، أما بالنسبة للموظف فإما أن يكون واقفا أو يجلس بشكل قائم! والتشديد على استخدام الألقاب عند مخاطبة الرئيس، وإذا نظر الرئيس إلى الموظف نظرة حادة فعليه أن يخفض نظره ويطأطئ رأسه، وهذا يعني الطاعة والولاء. أما بالنسبة للتشكيل الإداري للرئيس، فقد يكون مديرا عاما لإحدى الإدارات الرئيسة في الجهة، ويتكون القسم من سكرتارية خاصة لمكتب المدير، ومدير لمكتب المدير العام والذي له أيضا سكرتارية خاصة! وهذه الأقسام تعد بمنزلة حاشية للمدير، فلا يدخل مكتبه إلا من كان له مطلب خاص كان قد تقدم به مسبقا، ووافق المدير على تلبيته، ولا يتم الوصول إلى مكتب المدير أو الرئيس إلا عن طريق أفراد هذه الحاشية. وغير ذلك، فلا يمكن الوصول إلى مكتب المدير لأن الأعذار ستكون جاهزة إما أن المدير في لجنة أو في اجتماع، وقد يطلب من الموظف الانتظار لساعات طويلة كنوع من إذلاله وإظهار قوة وهيمنة وسيطرة المدير العام! ما تم استعراضه آنفا هي صورة مصغرة وبسيطة لبعض السمات الشخصية للقيادات الإدارية في بعض الجهات الحكومية، والتي تمثل في الوقت ذاته صورة من أعراف وتقاليد المجتمع، والإشكالية هنا تتمثل في أن التغيير في السلوكيات الإدارية يجب أن يواكبه تغيير في عادات وتقاليد وأعراف المجتمع، وهذا أمر صعب، لأن هناك مقاومة شديدة من المجتمع نفسه لهذا التغيير. فالنظام الإداري في أساسه نظام غربي نشأ وتتطور من ثقافة اجتماعية غربية، ويتم التعامل مع هذا النظام على شكله بثقافة اجتماعية أخرى، والرئيس أو المدير الإداري هو نتاج المجتمع الذي يعيش فيه، فإذا خالف الأعراف والتقاليد أصبح إداريا "رخمة" وضعيفا في نظر المجتمع، وهذه هي العلة المرضية التي أصابت السلوك الإداري في المملكة للأسف الشديد. نقلا عن الوطن السعودية