ليس الخطاب الديني وحده في مجتمعنا هو من يعتمد ويتكئ في تبرير انتشار ظواهر سلبية ومخالفات سلوكية ومشكلات مجتمعية وفردية، بحجة ضعف الوازع الديني، وينبغي أن تكون مواجهتها بشكل رئيس من خلال من منطلقات دينية، بل وحتى بعض الجهات المعنية بمواجهة تلك الظواهر والمشكلات، كقضايا الفساد والرشوة والسرقة والتحرش والعنف الأسري هي الأخرى تركن وتهرب من الاستقصاء للمسببات الحقيقة الملموسة لتلك القضايا، وتتخلص من البحث عن الأجوبة العلمية الواقعية في تشخيص مشكلاتنا، وتتجرد من مسؤولياتها، إلى إلقاء المسؤولية الكبرى - ومن غير عناء وجهد أو تقص أو تحليل - على جملة واحدة هي «ضعف الوازع الديني للمجتمع»، فهيئة مكافحة الفساد (وعلى لسان رئيسها) ترى أن ضعف الوازع الديني بنسبة 88 في المئة هو أهم أسباب الفساد لدينا، و90 في المئة من السعوديين يعزون وفق استطلاع لمركز الملك عبدالعزيز للحوار ظاهرة التحرش الجنسي إلى ضعف الوازع الديني، وفي استطلاع للجمعية الوطنية لحقوق الإنسان تجاه أهم أسباب العنف الأسري احتل كذلك ضعف الوازع الديني السبب الرئيس تجاه مرتكبي العنف، يأتي مثل هذا التبرير مع كوننا أكثر المجتمعات في العالم التي تغمرها كثرة المواعظ والخطب والمحاضرات الدينية، تلقياً في المساجد ووسائل الإعلام وتدريساً في المناهج التعليمية، فالمجتمع بكل شرائحه وقطاعاته العريضة لا يعاني من قلة في الخطاب الديني الوعظي أو التوعية الدينية، وإذا كان حقاً ما يردده هؤلاء من أن ضعف الوازع الديني له هذه الأهمية العظمى والمكانة الكبرى في انتشار الفساد لدينا فأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: ما العلاج المقترح لتقوية الوازع الديني؟ هل نحتاج إلى زيادة في حصص التربية الإسلامية في مدارسنا، والوعظ والمحاضرات في مساجدنا وقنواتنا الإعلامية، وأن نسعى في تحويل هيئة مكافحة الفساد إلى جهاز وعظي آخر يحارب الفساد الإداري والمالي من خلال مجرد نصوص وخطب تحث على الأمانة والمراقبة وتحرم الخيانة والرشوة، بدلاً من أن يكون جهازاً إدارياً تنفيذياً قادراً على تتبع وكشف عمليات الفساد ووضع العقوبات الصارمة الرادعة لكل المتورطين فيها؟ ولو تأمل وتفكر هؤلاء من الأساس في خطابنا الديني والذي نعني به الفهم والاجتهاد البشري للنصوص الدينية بمختلف مستوياته لوجدنا أنه لم ينجح في بناء منظومة أخلاقية متماسكة في نفوس أفراد المجتمع، بحيث يكون لها أثرها في الواقع الملموس، ولم ينجح قبل ذلك حتى في مجرد التنظير والطرح النظري لها والاعتناء بها، حيث كان جل همه وتركيزه هو في تحقيق التدين والسمت الظاهري أو الشكلي في المجتمع في وقت همَّش فيه وبشكل واضح الجوانب الأخلاقية والروحية، فهو خطاب يرتكز في معظمه فحسب على حقوق الله تعالى من الناحية العقدية أو العبادية، فجل اهتمام العالم في فتواه أو الخطيب أو الداعية في منبره هو مجرد الدعوة والأمر إلى امتثال أوامر الله والزجر على اجتناب نواهيه والانشغال بدقائق تلك الأمور وتفاصيلها وضرورة الالتزام بها، وذلك على صعيد الرجل والمرأة، على رغم أن جميع تلك الأمور تبقى في حيز الإطار والجانب الشخصي في العلاقة بين العبد وربه، وأما العناية والاهتمام بالجانب الأخلاقي والتحلي بصفات الصدق والأمانة والعدل والمراقبة، والتحذير من نقيض ذلك، وحسن التعامل مع البشر كافة مسلمين وغير مسلمين واحترام حرياتهم الشخصية وغرس ذلك في نفوسهم وضمائرهم، بحيث يكون ذلك منهج حياة لهم في بيوتهم وأعمالهم، ومع زوجاتهم وأولادهم، وفي السر والعلن، فقد كان من أواخر الاهتمامات في هذا الخطاب، وفي المقابل لذلك لو تساءل هؤلاء وهم يكررون دوماً هذه الحجة أو التبرير عن سبب انخفاض قضايا الفساد في معظم البلدان الغربية التي لا تولي الأديان اهتماماً كبيراً في حياتها اليومية، والتي يخضع الجانب الديني فيها للخيارات والحريات الشخصية لأدركوا أن الأمر إنما هو متعلق بمكانة ودور سيادة الوازع والرادع القانوني المدني الذي يضبط العلاقة والحقوق بين أفراد المجتمع، ويكفل للجميع الكبير والصغير والمواطن والمسؤول حقوقهم وواجباتهم كافة. نعم، قد يكون لضعف الوازع الديني في بيئة أو مجتمع كمجتمعنا دور في زيادة انتشار بعض الظواهر السلبية، ولكنه يظل دوره وتأثيره محدود، فالوازع الديني حتى لو وُجِد عند فرد فقد لا يوجد عند غيره، وإذا مثّل مانعاً لأفراد من ارتكاب الخطأ والوقوع فيه فإنه حتماً لن يكون مانعاً أو رادعاً لجميع أفراد المجتمع، والاتكاء والاعتماد على ذلك لن يخلق حال العدل أو يضمن للناس حقوقهم، وهو ما يعني أهمية وجود القانون الذي يطبق على أفراد المجتمع كافة، بلا استثناء، قانون يدرك من خلاله كل فرد عاقبة مخالفته وعدم الالتزام به، فمن لم يمنعه دينه ولم تمنعه أخلاقه فإن القانون الواضح والمحدد سيكون رادعاً له. نقلا عن الحياة اللندنية