أن تعتبر آراء وتصورات معينة من منطلقات دينية أن المرأة التي تقع ضحية التحرش هي المذنبة وهي المغوية، وأنها بسفورها ولباسها وهيئة عباءتها وتوسعها وتساهلها في الاختلاط هي مصدر البلاء، هو أمر غير مستغرب، وأن تحذو وتنسجم فئات مختلفة من المجتمع بثقافة اجتماعية تقليدية مع تلك الآراء والتصورات هو أمر أيضاً غير مستنكر. لكن، أن نقرأ أخيراً تصريحاً في إحدى الصحف المحلية السعودية لأحد أعضاء الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان يقول فيه: «إن بعض تصرفات الفتيات لدينا تدعو الشاب في شكل غير مباشر إلى التحرش بهن» هو مما لا يمكن القبول به من شخصية تعبر عن وجهة نظر جهة مخولة الدفاع عن الحقوق الإنسانية، ولو تساءلنا عن تلك التصرفات المشار إليها فإنها في معظمها لن تكون خارجة عما سبق ذكره. على كل حال إن هذا المنطق العجيب الغريب الذي يبرر في شكل غير مباشر للمجرم الجاني والمعتدي المذنب ويلقي باللوم على الضحية وهي الطرف الأضعف، وبدلاً من أن يواجه الواقع بمراراته يلجأ إلى الصعود على الحائط القصير الذي يسهل إلقاء المسؤولية والتهم عليه، هو منطق لا يمكن في أي حال من الأحوال سواء كانت دوافع أم مبررات قائلة دينية أو اجتماعية أو غير ذلك القبول بها أو السكوت عنها. ومن يبرر التحرش بهذا المنطق يقدم منطقاً عاماً لتبرير الجريمة في المجتمع، فلماذا نلوم من يسرق أموال الآخرين؟ إنه فقير لم يستطع مقاومة إغراء وغريزة حب المال، ولماذا نلوم من يسرق سيارة فارهة؟ إنه تمنى مثل هذه السيارة، لكنه حرم من اقتنائها، فلما رآها أمامه لم يستطع مقاومتها، فكسر زجاجها بيده وسرقها! وبناء على ذلك، فإن خطورة هذه القضية في مجتمعنا لم تعد في مجرد وقوعها وتكررها، بل باتت أيضاً في العقول والآراء والمفاهيم التي قد تختلق المبررات، وتسوق أنواعاً من الحجج في الوقت الذي تدفع فيه الضحية ثمناً غالياً من كرامتها، وهؤلاء الذين يتجهون إلى الإلقاء باللائمة على الفتيات والمرأة في مجتمعنا تحديداً لكون عباءاتهن وألبستهن كانت على شكل مخالف في منظورهم الخاص، أو أن تلك الفتاة كانت سافرة ومتزينة وهو ما جعلها تكون عرضة لافتتان الشبان بها، يجب عليهم أن يدركوا أن القضية ليست في أن تمتنع المرأة عن لباس أو زي معين أو مكان أو مجال معين حتى تكون في مأمن من التعرض لها، وإنما يجب أن يكون كل مكان آمناً لها ولغيرها أصلاً، لا أن يكون مقياس الأمن والأمان في خروجها مشروط ومرتبط بساعة ووقت معين ومكان معين وهيئة معينة، ولا يمكن أيضاً أن نسلب خيارها وحقها الشخصي في كل ذلك حتى نحقق ونوفر لها الأمن من بهيمية المعتدي الذي يصول ويجول بلا رادع. والتذرع بكل ذلك والتوسع فيه ما هو إلا حيلة العاجز للحد من حضور المرأة ومشاركتها في الفضاء العام على قدم المساواة بالعدل مع الرجل، وهم يتجاهلون في الوقت ذاته من خلال تلك الرؤية المحدودة أن أعمال التحرش مع المرأة والتعرض لها في الأماكن العامة والتصرفات الرديئة والبذيئة التي ينطلق منها هذا الفعل ما هو إلا ترجمة عملية لمدى الاحتقار والانتقاص من كرامة المرأة واختصارها في جسد وحق مستباح، لا كونها إنسانة مساوية له في الحقوق والواجبات والكرامة. والذين يعتقدون أن الحل لهذه القضية إنما يكون من منطلقات دينية ما هم إلا كمن يحاول محاربة الفساد الإداري والمالي بالاكتفاء بنصوص وخطب تحضّ على الأمانة والمراقبة، وتحرم الخيانة ومن يحارب العنصرية بنصوص المساواة وعدم التفرقة. فالوازع الديني إذا وجد عند فرد فقد لا يوجد عند غيره، وإذا مثل مانعاً لأفراد من ارتكاب الخطأ والوقوع فيه، فإنه حتماً لن يكون مانعاً أو رادعاً للجميع، والاتكاء والاعتماد على ذلك في مواجهة هذه القضية لن يصنعا أو يحققا الأمن للمرأة، ولن يضبط لك الشارع، وهو ما يعني ضرورة إيجاد قانون صارم يدرك من خلاله كل فرد عاقبة مخالفته وعدم الالتزام به، فمن لم يمنعه دينه وخلقه فإن القانون الواضح والمحدد سيكون رادعاً له. بالأمس احتفل المجتمع الدولي باليوم العالمي لمناهضة أشكال العنف كافة ضد المرأة الموافق فيه 25 تشرين الثاني (نوفمبر) الذي يتم الاحتفال به منذ أكثر من 20 عاماً، والمرأة محلياً وعربياً لا تزال تعاني الكثير في فضائها الداخلي المحدود وفي فضائها الخارجي! * كاتب سعودي