قبل أسبوعين تقريباً كتب مقالة بعنوان ''إنتاجية متقاعد'' بعد أن بهرني فكر المتقاعد عبد الله بن عبد المحسن الماضي في استثمار وقته وإنتاجيته المبنية على هذا الفكر وكيف أنه أصبح عنصرا منتجا ومصدر سعادة لمن حوله يتمنون له طول العمر والمزيد من الإنتاج، ولقد فوجئت بما ورد إلي من ردود على البريد الإلكتروني من حجم معاناة المتقاعدين ورغبتهم في المزيد من المقالات لتسليط الضوء على مشاكلهم ومقترحاتهم لمعالجة تلك المشاكل. مما وصلني وجدت أن مشاكل المتقاعدين تنحصر في أربعة محاور، الأول: استثمار طاقاتهم وخبراتهم في عمل يتناسب مع أعمارهم لدعم أوضاعهم المالية والمعنوية، الثاني: تكريمهم من قبل الدولة والمجتمع بمنحهم امتيازات وخصومات خاصة تسهل حياتهم وتعينهم على تكاليف الحياة وقسوتها خصوصاً تلك المرتبطة بالتقدم في العمر، الثالث: توفير أماكن وبدائل ترفيهية وثقافية واجتماعية لقضاء أوقاتهم بما ينفعهم ويسليهم ويخفف معاناتهم ويرفع مستوى نفسياتهم، الرابع: السن الأمثل للتقاعد من جهة المتقاعد ومن جهة المعطيات المتغيرة. ولنبدأ من المحور الرابع، حيث وصلني من محمود محمد أبو الهوى بعد المقالة السابقة خطاب رفعه إلى محمد الفايز وزير الخدمة المدنية بعنوان ''وجهة نظر في التقاعد والتوظيف'' طالب في مجمله بتقليص سن التقاعد للرجال والنساء أقل مما هو حالياً بعشر سنوات ليتقاعدوا في عمر مناسب ليتمكن الرجل من البدء في عمل استثماري أو غيره وهو في عمر يسمح له بذلك، حيث إنه بعد ال 60 عاماً لا يكون متحمسا لأن يبدأ في أي عمل جديد، ولتتمكن المرأة من خدمة بيتها وزوجها وهي في الأربعينيات من عمرها، حيث يحتاج إليها الزوج لرعايته والأبناء والبنات الذين في سن المراهقة لتتفرغ لمهمتها الأساسية في المجتمع هذا من جهة المتقاعد، أما من جهة المعطيات المتغيرة فيقترح أبو الهوى أن مثل هذا التغيير سيتيح فرصا وظيفية للقادمين إلى سوق العمل الأمر الذي يخفف نسب البطالة في البلاد. ومن وجهة نظري أنه مقترح يحتاج للمزيد من الدراسة ويتطلب تعزيزه بمقترحات أخرى تعالج المشاكل التي تترتب على التقاعد في مثل هذه السن، حيث عادة ما يكون الإنفاق من قبل الوالدين في قمته على الأبناء المراهقين الذين زادت متطلبات حياتهم وخصوصاً أن الأبناء والبنات أصبحوا يتأخرون في سن الزواج لما بعد ال 25 وإلى ال 30 مقابل أوائل العشرينيات فيما مضى، وأعرف أكثر من صديق يعانون معاناة شديدة من حجم الإنفاق على أبنائهم في هذه السن، وخصوصاً أن متطلبات الحياة في ازدياد وكذلك الأسعار، فما بالك لو أنه تم تقاعدهم في هذه السن وانخفاض دخلهم للثلث، بكل تأكيد ستكون معاناتهم كبيرة جداً. وبالنسبة للمحور الثالث المتعلق بالترفيه والحياة الاجتماعية والثقافية فأعتقد أن هذه المسؤولية باتت ملقاة على مؤسسة أنشئت لهذا الغرض وغيره من الأغراض المتعلقة بخدمة المتقاعدين وقضاياهم وهي ''الجمعية الوطنية للمتقاعدين'' والتي وضعت ضمن أهدافها تحسين وتطوير أوضاع المتقاعدين المالية والصحية والمعنوية والترفيهية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية مما يساهم في إسعادهم والمحافظة على كرامتهم وذلك من خلال على سبيل المثال إنشاء نواد للمتقاعدين في المدن والمحافظات للتعارف ومزاولة النشاطات الرياضية وتفعيل النشاطات الاجتماعية وأعتقد أن المتقاعدين ذاتهم يجب أن يكون لهم الدور الأكبر في تحقيق هذه الأهداف وتطوير هذه الوسائل فمن المتقاعدين من يتمتع بالعلاقات والصلات ومنهم من يتمتع بالقدرات المالية ومنهم من يتمتع بالخبرات الفنية والقانونية.. وهكذا، ولا شك أن إشعال شمعة من قبلهم خير لهم من أن يلوموا الظلام. ولنأخذ المحورين الأول والثاني معاً لأنهما مرتبطان، حيث يسعى المتقاعدون لتحسين مستوى معيشتهم بمسارين متزامنين وهما زيادة الدخل وتخفيض التكاليف، وزيادة الدخل يرون أنها تكون من خلال استثمار خبراتهم ومهاراتهم ومعارفهم من خلال تطوير أعمالهم الذاتية أو من خلال العمل كمستشارين أو تنفيذيين لدى الغير، أما تخفيض التكاليف فيرون أن على الدولة من خلال مؤسساتها وأنظمتها أن تقدم بطاقات خصومات في كثير من الخدمات إضافة للتأمين الصحي لتحمل تكاليف العلاج الذي يتزايد طلبهم عليه لتقدمهم في السن. ولنتحدث هنا بشيء من التفصيل فحسب علمي أن مثل هذه الأهداف لا يمكن أن تتحقق بجهود عشوائية غير منظمة وموجهة ومقومة علمياً، وبالتالي فهي تتطلب من ''الجمعية الوطنية للمتقاعدين'' تطوير خطة استراتيجية بالتعاون مع كل الجهات المعنية بالمتقاعدين وعلى وجه الخصوص ''المؤسسة العامة للتقاعد'' تقوم على دراسات تحليلية استراتيجية للوقوف على الواقع واستشراف المستقبل في إطار الاتجاهات التنموية للبلاد وبالإطلاع على التجارب العالمية للاسترشاد بها وذلك للوصول إلى برامج استراتيجية مُزمّنة تحقق في مجملها رؤية ورسالة وأهداف الجمعية التي تخدم في محصلتها تطلعات وحاجات المتقاعدين بشكل عملي دقيق موجه ومُقوم دورياً، وبغير ذلك سيبقى التعاطي مع هذا الكم الهائل من المتقاعدين والذي يتزايد بشكل سنوي تعاملاً قاصراً لا يتناسب وحجم القضية والمشاكل المترتبة عليها، وأعتقد أنه من الضروري أن توفر المؤسسة العامة للتقاعد المخصصات المالية لإعداد هذه الخطة وهياكلها ومواردها البشرية والأنظمة اللازمة لتطبيقها ومتابعتها وتقويمها كجزء من مسؤولياتها الاجتماعية تجاه المتقاعدين سبب نشأتها ومصدر دخلها ومجال تقويمها. وأعتقد أن ''المؤسسة العامة للتقاعد'' يمكن أن تطور برنامجا استراتيجيا مهما لاستثمار طاقات المتقاعدين من خلال إنشاء ''منصة استثمارية'' يستطيع أي متقاعد أن يتقدم لها لاستثمار خبراته ومهاراته ومعارفه لتطوير أعمال صغيرة أو متوسطة بتمويل مالي من خلال المؤسسة أو المؤسسات التمويلية الحكومية ذات الصلة لتستثمر البلاد طاقاته وليحسن دخله ويعزز وضعه النفسي والصحي والاجتماعي والاقتصادي معاً. نقلا عن الاقتصادية