التطور المدني لمجتمعنا بطيء، وقد يصل إلى درجة الجمود. والتمدن لا يقاس بالمظاهر الخارجية، بل بالروح العامة المنفتحة على الحياة، المتقبلة للانصهار الاجتماعي، والمتقبلة للتعايش مع الآخر الذي يعيش بيننا، أي أن التمدن حالة إنسانية سلوكية حضارية، وليست مجرد أنشطة سياسية أو اقتصادية.التمدن حالة يشعر بها الفرد، ويتعاطاها المجتمع من خلال تنظيمات مدنية تشكل منظومات البناء الاجتماعي بدلا من القبيلة التي تكرس العزلة ولا تسمح بالانصهار الوطني. والمفهوم المدني للحياة لا يتناقض مع المفهوم القبلي لكنه مستوى آخر من التعايش يسمح بدخول فئات اجتماعية أخرى في بنية متحركة غير مغلقة كالمجتمعات القبلية. ولعل حياة المدن هي الأمثل من حيث ممارسة المفهوم المدني للحياة. والمدينة بطبيعتها تسمح باستيعاب أطياف بشرية مختلفة اللغات والألوان والأعراق، الروابط التي تجمع هذه الأطياف هي المصالح اليومية التي تقوم على العمل وتبادل المنافع. فالمستوى اليومي من العلاقة يمكن أن يتحول بفعل التنظيمات المدنية إلى قوة اجتماعية لها فوائد أمنية واجتماعية كبيرة. يعيش بيننا آلاف الوافدين للعمل لكنهم بعيدون عنا اجتماعيا واقتصاديا وحتى إنسانيا. هم يجهلوننا، ونحن لا نحاول الوصول إليهم. ويبدو الأمر طبيعيا في ظل عدم وجود روابط مدنية تجمع وتؤسس علائق قائمة على الاحتياجات اليومية.في ظل عدم وجود روابط مدنية يتكتل المواطنون في أحيائهم وفقا لمرجعياتهم القبلية رغبة في الاحتماء وتجديد الانتماء في مجتمع المدينة الذي يجمع المتناقضات. وهو في هذه الحال اجتماع بديل عن الاجتماع المدني الغائب. ومن ينظر لمدننا يجد تكوينها السكاني فئويا، مرة يكون التجمع السكاني للانتماء القبلي، ومرة للمستوى الاقتصادي سواء كان عاليا أو متدنيا. وإذ يبدو ذلك واقعا، فإنه يمكن إعادة بناء علاقات سكان المدن دون التدخل في القناعات أو مستوى الظروف المعيشية. من هنا يمكن تأسيس روابط تجمع سكان الأحياء تكون ممثلة لهم أمام الجهات الرسمية وخاصة الخدمية. يجتمع السكان وفق تنظيم معين وتحديد مطالبهم وعرض مشكلات أحيائهم، ومتابعة كل المستجدات اليومية.. وقد يحتج بأن مراكز الأحياء تقوم بهذا الدور. أولا من حيث المبدأ فكرة مراكز الأحياء من حيث قيمتها المدنية جيدة، لكنها تفتقر لثلاثة أمور أساسية. أولا، تفتقر للتمويل الكافي. ثانيا، عدم شمولها لكل الأحياء. ثالثا، عدم شمولها لكل سكان الحي من المواطنين والوافدين. غياب هذه العناصر الثلاثة تجعل مراكز الأحياء فقيرة في محتواها الاجتماعي والإنساني. إن تأسيس روابط سكانية داخل الأحياء تحت إشراف رسمي ويغذيه كل أبناء الحي ماديا بالمساهمة والمشاركة، بحيث يصبح التجمع المدني صوتا يعبر ويطالب بحقوق سكان الحي الخدماتية هو مطلب لتفعيل المشاركة الاجتماعية الفاعلة. واستطرادا يمكن أن يكون لكل حي ممثل في المجلس البلدي، يعبر عن مشكلات الحي وتطلعات ساكنيه. ولعل من إيجابيات روابط الأحياء المدنية أو التجمعات المدنية دمج سكان الحي من المواطنين والوافدين في بيئة إنسانية مشتركة تحيد الفوارق الاجتماعية وغيرها وتصبح الصلات عميقة المعنى من حيث المعرفة والانفتاح على تجارب الآخرين. فمعظم الصلات مع الوافدين للبلاد لا تتجاوز هموم العمل أو الخدمات التي يقدمونها في ظروف تطغى عليها المصلحة المطلقة. وفي هذا السياق لا تنمو العلاقات بين الطرفين إلا على بعد نفعي خالص، مع وجود الاستثناء دائما. الكثير من الوافدين للعمل يعودون في الغالب بانطباع لا إنساني عن مجتمعنا، فنحن نشكل لهم حالة غامضة، لا يعرفون طريقة عيشنا، ولا نمط حياتنا. فنحن نعيش في عزلة اجتماعية، وفي منازل مسورة من يقترب منها مفقود على حد تعبير عبد الحليم حافظ، نادرا ما نستضيف زملاءنا في العمل. فمعرفتهم عنا سطحية، غامضة. إن التعريف ببلدنا في الخارج أقل جدوى من التعريف به في الداخل. فإدماج آلاف العاملين في سياقنا الاجتماعي أثره بعيد على المستوى الإنساني والاجتماعي. ولذلك أرى أن فكرة التجمع المدني لكل سكان الحي مواطنين وغيرهم بداية جيدة لبناء معرفة واقعية عن مجتمعنا، وبناء حماية أمنية ضرورية. نقلا عن عكاظ