يبدو أن واجهتنا الحضارية المتمدنة هشة للغاية تقتصر على بعض المقتنيات والآلات التي ننثرها في منازلنا ومدننا، مع بعض إشارات الطرق والطائرات التي تحلق فوق كل هذا، ولكن عندما نتأمل التكوين والمحتوى الحضاري وسمات التمدن داخل التركيبة العقلية والنفسية للإنسان المحلي سرعان ما نكتشف أننا ما برحنا في المراحل البدائية الأولى من التعصب والتعنصر ضد المختلف مع كم هائل من التصورات العدائية التي تتجذرعميقا وصولا إلى أغوار بدائية لم تطلها المدنية أو الوعي الذي يجمعنا مع العالم على أرضية إنسانية مشتركة. فنحن بعد فاجعة الخادمة التي قتلت (تالا) انصب غضبنا الجمعي على الخادمات جميعهن، وأسقطنا بعض التفاوت البشري ومحدودية الجريمة ونسبيتها مقارنة بأعدادهن وتعاملنا معهن (أي الخادمات) كجسم واحد محتقن بالشر والجريمة، ولم نناقش قصورنا التربوي والإداري والتنظيمي عن توفير مناخ ملائم للمرأة العاملة وأطفالها من دور حضانة مناسبة لأطفال العاملات، أو جليسات مختصات بنظام الساعات. أيضا مشاكل ومعوقات تعليمنا العالي جعلت أحد برامجنا الإعلامية الشهيرة في إحدى حلقاته يختار ضحية (أجنبي)! وينصبه كالمجرم والمتهم الأوحد ويحاكمه عبر خطاب شوفيني متطرف يسخر من قطاع كبير من العرب الذين شاركونا التنمية لسنوات طوال، وإلقاء اللوم عليهم متناسين ثغرات مزمنة في قوانين وأنظمة تنمية التعليم العالي لدينا . ظاهرة كبش الفداء من الظاهرات التي يعرفها الأنثروبولوجيون الاجتماعيون قبل أن يعرفها ويفسرها علماء النفس.. ولقد أفرد جيمس فريزر باباً بأسره لهذه الظاهرة في كتابه المشهور "الغصن الذهبي " والذي يهمنا منها الآن هو نشأتها كظاهرة اجتماعية، ثم علاقتها بكيان المجتمع. فظاهرة كبش الفداء تقوم بوظيفة حيوية في ظروف معينة. بخلق ضحية تصب عليها الجماعة مخاوفها ومأزقها ومصاعبها. هي محاولة الفرار من مشاكلنا واختيار المشجب القريب لتعليق همومنا عليها ..الضعيف !أو (كبش الفداء) . وهي ظاهرة تاريخية معروفة ومتكررة.. في أوروبا اختارت الكنيسة أثناء محاكم التفتيش وتأجج جذوة الصراع الديني سواء في الأندلس أو الحروب الصليبية كبش فداء من الساحرات، فاستهدفت النساء الضعيفات الوحيدات أو المسنات اللواتي يعشن على أطراف المدن ومشارف الغابات لتزعم بأنهن ساحرات وتحرقهن، ككبش فداء يفتدي مخاوف الكنيسة، وهي الظاهرة التي انتشرت كالحمى في أوروبا وراح ضحيتها الآلاف من النساء . الدولة العثمانية وهي تتهاوى وتتفتت اختارت مجموعة من شعب الأرمن كانوا يعيشون بين الجبال على حدود تركيا مع روسيا لتصب عليهم جام غضبها وقامت بحرب إبادة ضدهم عام 1916 بحجة التآمر مع روسيا ضد الدولة العثمانية ، فكانوا هم (كبش الفداء) الضعيف لإمبراطورية تتهاوى وتتناهشها الأمم . ظاهرة (كبش الفداء) غالبا تكون لدى العموم والبسطاء وأصحاب الوعي المحدود، وتكمن خطورتها عندما يتبناها الإعلام وصناع وقادة الرأي، ويروج لها بطريقة مضللة للمتلقين ومبعدة لهم عن مصادر مشاكلهم الحقيقية.. كم هو خطير أن نسكب غلالة مظلمة فوق وعي الجماهير بشكل يبلبلهم عن عدوهم الحقيقي المتجذر في أشكال الفساد الإداري، وغياب الشفافية والمحاسبية، وتهلهل سياقات التنمية وإدارة الثروات.. الطرح الإعلامي من مهامه صناعة رأي عام صحي ونقي وخال من الهواجس والتخرصات التي تختفي فيها الموضوعية والطرح المستقل.. صناعة الإعلام تتطلب مهنية مرتفعة كيف تحتفظ بمصداقيتها وقدرتها على توجيه الرأي العام أو أنها ببساطة ستتحول جزءاً من حالة الفساد.. نقلا عن الرياض