فهم التاريخ جزء كبير من فهم الحاضر والمستقبل، وما حصل في الماضي القريب أو البعيد له تأثيره على حاضرنا، وعلى تشكل الكثير من المعطيات الواقعية في زماننا، وربما إلى مستقبلنا أيضا. مكوناتنا الفكرية والسياسية وغيرها، هي مكونات سبق لها أن تشكلت بفعل الأحداث التاريخية التي مرت على أجدادنا وأجدادهم، وانفصالنا عنها يعني انفصالنا عن جزء كبير من مصادرنا المعرفية التي تكونت لدينا وشكلت واقعنا. وعلى أهمية فهم التاريخ؛ فإن ذلك لا يعني الوقوف عند نقطة من نقاطه أو عدم نقده، بل إن الفهم والقراءة للتاريخ يشكلان وعيا تاريخيا بالواقع؛ الوعي الذي يبني وينقد وربما يلغي أيضا متى ما كان الحدث التاريخي مشكلة من مشكلات الواقع كالقمع مثلا الذي نحتاج إلى إلغائه من واقعنا المعاصر بمحاولة نقد جذوره التاريخية. وأحداث الفتنة الكبرى تشكل مرحلة مفصلية في التاريخ الإسلامي حتى يمكن وصفها أنها نقطة مفترق الطرق التي تشكلت منها معظم التيارات والمذاهب والعقائد التي نرى بعضها ما يزال يؤثر على واقعنا وسياساتنا وتصوراتنا الفكرية ومفهومنا للدولة في الماضي والحاضر. الحرب التي تدور في الفضاء الإلكتروني هذه الأيام حول معاوية بن أبي سفيان ما بين متهجم على معاوية وبين مبرر له ومتهجم على الطرف الآخر تعطي أهمية كبرى لو كانت الحرب أكثر تعميقا لما حصل في تلك الفترة، ومدى عمق تأثير ذلك في الامتداد التاريخي لمجمل الفكر العربي لاحقا، لكنها حرب حديثة بأدوات فكرية ونقدية قديمة لاتتجاوز التهم المتبادلة بين الأطراف المتنازعة وكأن علي ومعاوية لايزالان يجران جيشهما لمقاتلة بعض. بالطبع لست ضد نقد تلك الفترة (الفتنة الكبرى)، ولست ضد نقد كامل التاريخ أيضا، بل وأدعو له أحيانا عن طريق نقده بالأدوات التاريخية البحثية الحديثة المعمقة، وإنما أنا ضد ذلك المفهوم التحزبي أو التياري أو الروح الطائفية التي تسري بين حنايا المواضيع المثارة في نقد معاوية أو تبرير أخطائه. نشهد في الفترة الأخيرة تشكلا لمفهوم الدولة الحديثة (الدولة المدنية) والتي هي بالتأكيد تنقض مفهوم الدولة التقليدية التي تقوم على مبدأ السلطة المطلقة في مقابل السلطة التشاركية الديمقراطية، والتاريخ الإسلامي في غالبيته هو تاريخ السلطات الفردية المطلقة التي ابتدأت منذ الدولة الأموية، مع اختلاف بين المؤرخين في الفترة التي قبلها (الراشدية)، ولذلك فإن نقد التاريخ هو من أجل تصحيح رؤية حاضرة في تشكيل مفهوم الدولة الحديثة: الديمقراطية، والعودة إلى تاريخ تشكل الدولة التقليدية ونقدها هو في رأيي مهمة تاريخية ولكن ليس بالرؤية التيارية أو التحزبية سواء تلك الكتابات الانتقاصية أو الكتابات التبريرية التي جرى العمل عليها في الحرب الدائرة حول شخصية معاوية. إن المهمة التاريخية في رأيي هي تجاوز التاريخ نفسه؛ لا بمعنى التجاوز القرائي والبحثي وحتى النقدي، بل بالمعنى المفهومي أي ألا يصبح هذا التاريخ معيقا لنا في تشكيل رؤيتنا الحديثة عن مفهوم الدولة الحديثة فالقضية ليست في نقد معاوية أو التبرير له بقدر ما أن المسألة في فهم ما جرى لتجاوز إشكالياته الفكرية والسياسية لبناء مفهومنا الخاص لعصرنا ولتشكيل رؤيتنا الحاضرة في تسيير سياستنا التشاركية من خلال مفهوم الدولة الديمقراطية الحديثة ومفهوم المواطنة. نقلا عن عكظ