تنامت القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية. وازدادت هذه القوة بعد سقوط منظومة الاتحاد السوفيتي في 1989، وانفراد أميركا كقطب عسكري واقتصادي عالمي أوحد. يقول فيليب جولوب، الأستاذ في الجامعة الأميركية في باريس، ومؤلف كتاب "تاريخ مختلف للقوة الأميركية": "قام التوسعيون الأميركيون في نهاية القرن التاسع عشر بإعادة تفسير التاريخ العالمي انطلاقاً من موقعهم الجديد المتفوق صناعياً (23.5% من الإنتاج الصناعي العالمي مقابل 18% لبريطانيا عام 1900). واعتبر هؤلاء التوسعيون أن الارتقاء الأميركي، نتيجة مسار تاريخي قائم على الفرز الانتقائي، والتعاقب الإمبراطوري. وكتب أحد المقربين من الرئيس روزفلت يقول: "ليس هناك ما يمنع، أن تصبح أميركا في مركز قوة وسلطة أكبر وأكثر مما كانت عليه روما، أو القسطنطينية". ويؤكد جولوب أن أميركا، بعد انتهاء الحرب الباردة، أصبحت في قلب دورة العولمة الثانية، وبدأت نخبها تحلم ب"قرن أميركي جديد". فكتب زبيجنيو بريجنسكي (مستشار الأمن القومي الأميركي السابق) في عام 1998 يقول: "إن سعة القوة العالمية الأميركية وتواجدها في كل مكان، أمران فريدان من نوعهما اليوم". وبعد ثلاث سنوات، تحدث هنري كيسنجر عن "الارتقاء الشامل لأميركا"، الذي هو أكبر من الارتقاء في الإمبراطوريات السابقة. -2- وهذا الإحساس بالتفوق والارتقاء، هو ما دفع أميركا في القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين، إلى توثيق علاقتها مع دول الشرق الأوسط، حفاظاً وزيادةً على هذا التفوق، والارتقاء. وكانت سورية هي الدولة التي كانت أميركا صديقتها باطنياً، وعدوتها ظاهرياً. فما هي مظاهر الصداقة الأميركية – السورية الباطنية؟ 1- العَلْمانية السورية أقرب إلى عَلْمانية أميركا منها إلى العَلْمانية الأوروبية. فالعَلْمانية الأميركية تتمسك بالدين تمسكاً قوياً. وكان الدين بالنسبة للمؤسسين الأوائل في أميركا يقوم بدور أيديولوجية التحرر من الاستعمار البريطاني، والفرنسي. لذا، كان الدين بالنسبة لأميركا قوة تقدمية، على عكس ما كان عليه الحال في أوروبا. والعَلْمانية في سورية مرنة، وتفسح المجال للدين. والعَلْمانية السورية تجربة ثقافية، ولا تتعارض مع الإيمان الشخصي، أو القناعة الدينية، كما يقول المستشرق الألماني كارستين ويلاند، في كتابه (سورية: الاقتراع أم الرصاص؟ ص 184). 2- اتفقت أميركا مع سورية في عهد حافظ الأسد على منح المزيد من الحقوق للمرأة، وإقرار تشريعات دستورية مختلفة، للحصول على مزيد من الدعم من الأقليات. كما قام حافظ الأسد – إرضاءً لليمين الأميركي- بإلغاء عبارة "الكيان الصهيوني" من المناهج المدرسية المختلفة، واستبدالها بكلمة "إسرائيل" فقط. 3- مهاودة سورية لإسرائيل، وعدم الاشتباك معها عسكريا على الحدود السورية – الإسرائيلية في الجولان. وضبط "حزب الله"، ومنعه من الاشتباك مع إسرائيل إلا في حدود معينة. وكذلك الحال مع حركة "حماس" في غزة، وكافة الفصائل الفلسطينية الأخرى، التي تستضيفها سورية. 4- طرد حافظ الأسد لميشيل عفلق وصلاح البيطار (مؤسسي حزب البعث عام 1945) من سورية. فذهب عفلق إلى العراق، وذهب البيطار إلى باريس، واغتيل هناك. وكان عفلق معجباً جداً بهتلر الفاشستي، وعدو أميركا الأول، في النصف الأول من القرن العشرين. 5- تضاءل التأثير السياسي لحزب البعث، الذي أصبح في عهد حافظ الأسد مجرد أيديولوجيا تبرير، وذخيرة من العبارات الدعائية. 6- اعتبار كارثة 11 سبتمبر 2001، حدثا دمويا مُدانا من قبل سورية، إذ قالت الوزيرة بثينة شعبان وقتها: "إن هذه الهجمات أصابتنا، كما أصابت أميركا. وكانت أفظع ما حدث لمنطقتنا". 7- اشتراك سورية إلى جانب "الحلفاء"، في حرب الخليج 1991، ضد صدام حسين، لطرده من الكويت. 8- تزويد أميركا الاستخبارات السورية بمعلومات ووثائق، تمكنها من محاربة "جماعة الإخوان المسلمين" والحركات الإسلاموية/السياسية الأخرى. وكان جورج تينت مدير CIA السابق من الأصوات المعتدلة، تجاه نظام الحكم في سورية. وكانت CIA قد ساعدت على ضبط مجموعات إرهابية كثيرة في سورية. ولكن السوريين في 2005 أوقفوا تعاونهم مع الاستخبارات الأميركية، بحجة أن الأميركيين لم يعودوا مهتمين بهذا التعاون. -3- وما هي مظاهر العداوة الأميركية – السورية الظاهرية؟ 1- كانت أميركا تكره حزب البعث، وتعتبره حزباً فاشستياً لأن مؤسسه (ميشيل عفلق) كان معجباً جداً بهتلر. ورغم ذلك استبدل حزب البعث عبادته لهتلر بدعم فكرة عبادة القائد العظيم (حافظ الأسد) على الطريقة الكورية الشمالية، حيث انتشرت في الشوارع والساحات العامة تماثيل وملصقات "القائد للأبد". وكذلك فعل كل من صدام حسين في العراق، ومعمر القدافي في ليبيا. وفعل من قبلهما عبد الناصر. 2- كانت أميركا معارضة لإقامة قيادة حركة "حماس" في سورية، وكذلك باقي الفصائل الفلسطينية الأخرى ("الجهاد الإسلامي"، و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وغيرهما) المعادية لإسرائيل، حيث أسست هذه المجموعات شبكة من المستشفيات والمدارس، والمؤسسات الترفيهية للاجئين الفلسطينيين في سورية. إلا أن حجة سورية كانت دائماً تقول، بأن وجود مثل هذه الفصائل في سورية يضبط حركتها، ويحول بينها وبين مضايقة إسرائيل بشكل جدي. وهذا فعلاً ما تم. 3- اعتبار سورية دولة "مارقة"، ومن محور الشر الذي أعلن عنه جورج دبليو بوش. ورغم ذلك – وللمفارقة - فسورية هي الدولة الوحيدة "المارقة"، التي لها علاقات دبلوماسية مع أميركا حتى الآن. ورغم أن دولاً عربية قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع سورية مؤخراً، احتجاجاً على الجرائم التي ارتكبها النظام السوري ضد شعبه، إلا أن أميركا ظلت على علاقتها الدبلوماسية مع سورية، رغم وجود سورية منذ 1979 في قائمة الدول السوداء لأميركا! 4- منع لبنان من توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل. 5- يقول المستشرق الألماني كارستين ويلاند "إن أميركا تؤيد صراحة التغيير القسري لنظام الحكم في دمشق، دون إعطاء أية إشارات لما سيتبع ذلك". (سورية: الاقتراع أم الرصاص؟ ص 312). وبعد، فإن أميركا في علاقتها بكل دول منطقة الشرق الأوسط تواجه مشكلتين رئيسيتين: محاربة الإرهاب، وحل الصراع العربي/ الإسرائيلي المستعصي. وكلاهما مرتبط بالآخر. نقلا عن الوطن