رغم كل ماقيل ويُقال، لن يكون ممكناً الهربُ من جدليّة الديني والسياسي في سورية الجديدة. هذه حقيقةٌ بات الاعترافُ بها مطلوباً. بعيداً عن الشعارات والأوهام والأمنيات.. لأن الإصرار على إنكارها في الواقع السوري إنكارٌ لذلك الواقع ذاته. وإنكارُ الواقع لا يؤدي إلا إلى الفوضى. في حين أن التسليم بوجود تلك الحقيقة قد يؤدي إلى استيعابها والتعامل معها بشكلٍ يحقق مصالح سورية كشعبٍ وكوطن على غير صعيد. قد يتساءل المرء: لماذا تفرضُ هذه الجدليةُ نفسَها على سورية وأهلها؟ هل صحيحٌ أن الأمر لايعدو أن يكون (لعنةً) أصابت ثقافةَ هذا البلد كما يرى البعض؟ أم أن دلالات الظاهرة أكبر من أن يتمّ اختزالها في ذلك التفسير الهروبي (الخفيف)؟ بكلماتٍ أخرى: هل يحاول التاريخ أن يقول شيئا للسوريين؟ هل تحاول الثورة السورية الراهنة أن توصل إليهم رسالة معينة؟ وباختصارٍ ووضوح: هل يمكن أن يكون في تلك الجدلية كمونٌ يجبر السوريين على مواجهة تحدي البحث عن (نموذج جديد)؟ ليست صناعة التاريخ ولا صناعة نماذج الحياة حكراً على أحد في هذه الدنيا. فلماذا نهرب من مواجهة ذلك السؤال؟ يفهم المرء تخوّف البعض من الروح (الرسالية) حين (تتلبّس) العقل العربي المعاصر في سورية وغيرها، لأن نتيجة ذلك التلبّس كانت مأساويةً في كثيرٍ من الأحيان. لكن مقاربة هذا الموضوع لايجب أن تكون بالضرورة (رساليةً) على الدوام. فكم من صفحاتٍ للتاريخ كتبها تراكمُ الجهد البشري عبر خطوات صغيرة في حسابات البشر، ولو لم تكن خلفها روحٌ رسالية بإيحاءاتها السلبية السائدة في ثقافتنا. ففي غياب شروطٍ فكرية وثقافية موضوعية تساعد الروح الرسالية على صناعة التاريخ والحياة، صارت تلك الروح في الماضي نقمةً على أهلها حيناً، و نقمةً على العالم بأسره حيناً آخر.يستوي الأمر فيما يتعلق بالروح الرسالية القومية أو الإسلامية أو الحداثية. فباسم الرسالة القومية، أنتج البعض التسلط السياسي، ومعه التخلف الاقتصادي والاجتماعي على كل صعيد. وباسم الرسالة الإسلامية، أنتج البعض الآخر العزلة عن الآخر والتقوقع حول (الأنا)، والهروب من الدنيا في اتجاه (الآخرة)، والغربة عن الحاضر والمستقبل في اتجاه (الماضي). وباسم رسالة الحداثة والعصرنة والتحضّر، أنتج البعض الثالث ضياع الهوية حيناً، وضياع البوصلة التنموية والثقافية حيناً آخر. هذا ماتفعله الروح الرساليّة عندما تتملك العقل الذي لايعرف الحلول الوسط، ويعالج ردود الأفعال بردود الأفعال.. لكن هذا لايعني أن يصبح الخيار البديل متمثلا في (الاستقالة) الحضارية، والوقوع في فخّ التقليد للنماذج القائمة وكأنها مُطلقةٌ ونهائية. فتلك هي عقلية الثنائيات المتقابلة التي تحاصر واقع الناس وتخنقه، حين يقفزون على الدوام على أي خيارٍ (ثالث). لامفرّ من الاعتراف علنياً، دون مداورةٍ أو تهرّب، بأن الإسلام سيكون بشكلٍ أوبآخر عنصراً رئيساً في رسم ملامح صورة سورية المستقبل. فقد تمنى البعض في يومٍ من الأيام بأن يصبح الدين بشكلٍ عام والإسلام تحديداً شيئاً من الماضي. وساد لفترةٍ واقعٌ أوهمهم بإمكانية تحقيق ذلك الحلم. لكن الحياة البشرية أفرزت معطيات سرعان ما محت تلك الأوهام. حيث عاد الدين اليوم ليزاحم كل انتماء وكل فكرة، وليجد لنفسه تأثيراً في كل قضية. لهذا، صار مطلوباً أن يتم البحث في جدلية الديني والسياسي في سورية المستقبل. ولن يكون هذا ممكناً إلا إذا استطاع الساسة والمثقفون السوريون، من مختلف المدارس الفكرية والأيديولوجية، تجاوز مواقفهم الصارمة المحدّدة المعروفة تجاه تلك الجدلية. لقد أصبح إضفاءُ القداسة على أي ممارسات سياسية تُمارس باسم الإسلام مستحيلاً مادام الذين يمارسونها بشرا يُخطئون ويُصيبون. هذه حقيقةٌ لم يعد ممكناً رفضها. ومحاولة العمل بعكس مقتضياتها ستجرُّ الوبال على من يقوم بذلك ابتداءً، فضلاً عن التأثير السلبي لمثل هذه الممارسة على سورية الجديدة كوطنٍ وكدولة. لكن من غير المقبول أيضاً النظر إلى كل ماهو (إسلامي)، خاصةً في فضاء السياسة،بمنطق (الرفض المبدئي) المبني على مزيج من الشعور بالفوقية الثقافية تجاهه من ناحية،ومنطق الخوف والحذر منه من ناحية ثانية. وأخطر مافي الأمر أن يحاول البعض القفز على دور الإسلام وإلغائه من خلال حلول سريعة وقصيرة النظر وقليلة الحسابات. لا إمكانية للتعامل مع جدلية الديني والسياسي من مثل تلك المنطلقات بعد اليوم. والسؤال الأساسي المطروح: أي فهمٍ للإسلام هو الذي يصلح لسورية الجديدة؟ واضحٌ أننا بحاجة منذ الآن إلى الكثير من المرونة والموضوعية والتجرد والحوار. ربما كانت هذه الشروط صعبة، ولكنها ليست مستحيلة. نعرف صعوبة زحزحة جميع شرائح المثقفين السوريين، من مختلف الانتماءات، عن مواقعهم الفكرية لسببٍ أو لآخر.. لكن الأمر لايتطلب ذلك النوع من الإجماع. فالمسألة تتعلق بالنوع وليس بالكمّ. وهي أولاً وقبل كل شيء (موقفٌ) ثقافي سنترك للتاريخ الحكم عليه. يكفي أن توجد بعض الشرائح المستعدة لتحريك الراكد لكي ينطلق القطار. عندها، يصبح الآخرون أمام الخيار المعروف بين القفز إليه في آخر لحظة، أو الحياة بعد مغادرته في قاعات الانتظار. نقلا عن المدينة