ما أفهمه أن النظام العربي العلماني الذي كان ديكتاتوراً سياسياً لكنه منفتح ثقافياً نوعاً ما على صعيد ممارسة المواطنين حرياتهم الاجتماعية، انتهى ليحل محله نظام ديني مجبر وفق الديموقراطية الجديدة على منح الناس حقوقهم السياسية مقابل سلبهم حرياتهم الخاصة. ما أفهمه أن الناس سئمت الحرية الفردية أو أنها لا تعي قيمة فقدان تلك الحرية. وما أفهمه أن المطالب السياسية والاقتصادية قد طغت في السنوات الأخيرة على المطالب الثقافية. تبريرات أقلام الليبراليين تطمئن أصحابها وأنصارها بأن الناس قد صوتت للخبز واللحم والخدمات المجانية التي قدمها الإسلاميون وليس للفكر. الفقر هو السبب، هكذا تقول تبريرات لا تقتنع بأن الشعب العربي أصبح ملتزماً دينياً بغالبيته، وأن صوته اتجه لحبس الحرية ومحو الثقافة. عموماً ستكون المرأة نجمة السنوات المقبلة، فالفتاوى العربية لا تكتمل الا ان كانت حواء بطلتها. وكل شيخ لابد أن يزج باسمها بين حروف فتاواه كدليل ذوده عن طهارة المسلمين، خاصة وأن أصل كل الأفعال ذرائع ومفاسد ودعوة لفجور المرأة. بالنهاية سيجتمع حشد من السياسيين الكبار لمناقشة قانون منع خروج المرأة من منزلها بعد الثامنة مساء مثلما حدث ببرلمان الكويت قبل سنوات قليلة حين كانت غالبيته إسلامية. أو يمضي حشد من السياسيين الكبار أوقاتهم البرلمانية بالبحث عن طريقة ملائمة لإخفاء هذا الجسد النجس، من باب سد الذرائع ليس إلا. يعتقد البعض أن الديموقراطية الجديدة لن تسمح بأن يدوم حكم ما للأبد. لكن الإسلاميين ليسوا جماعات عادية، بل هم دول تعيش بيننا. دول داخل الدول. هناك دولة إسلامية داخل كل دولة عربية. لذا فسنوات حكمهم ستكون كافية لتسلم عروش الفكر والعقول وتحويل دفة البلد لنحوٍ يرضيهم إلى ما بعد انتهاء مدتهم، البعض الآخر يعتقد أن الإسلاميين من مخلفات الأنظمة القمعية. وجودها صنعهم وهي من استغلتهم وقت الحاجة قبل أن تقمعهم وتسجنهم وتستخدمهم للتخويف من الثورات... باختصار هم من المخلفات. والحاجة لوجودهم انتفت. كحال أغلب التيارات الفكرية التي تظهر وسط بيئة وظروف معينة وتقترب مدتها الزمنية على نهايتها حين تتحول البيئة أو تنتهي الظروف التي رعت نشأة تلك التيارات، هذا برهان على أن فرقعة الإسلاميين وفوزهم لن يطولا سنوات كثيرة، وسيعود الثائر الذي استشهد رفاقه أمامه بالميادين ليفكر في ثقافة بلده. فبعد أن دفع من جسده لإعلاء وطنه سياسياً وديموقراطياً أيكون ذلك على حساب ثقافته ورفعته؟ هل أخرج الديكتاتور الذي أنهك الشعب بطريقته ليصوت لآخر ينهك الشعب بطرق أخرى؟ سيعود الثائر ليفكر في نهضة بلده العلمية والاقتصادية والتجارية، سيفكر في فنونها وآثارها وجنون إبداعها ورقصها ومزاميرها وتاريخها، ويدفع مستقبلاً تجاه المرشح الذي يضمن لبلده مكانة بين دول العالم المتقدم لا عالم الأحلام والخزعبلات إن كانت التحليلات الليبرالية سليمة فنجم السنوات المقبلة برأيي يجب أن يكون للخدمات والخبز واللحم، لعل المواطن يتجه بالمرات المقبلة لنحو معتدل فيفكر في مستقبل بلده بدلاً من التصويت للماضي.. إن تحسنت إدارة الدولة للخدمات سينتقل ولاء المواطن بالضرورة من الجماعة أو الحزب الذي يعدانه بالطعام والتعليم للدولة والوطن. هنا يبدأ الربيع الحقيقي، حين يبنى الفكر من جديد وتعاد صياغة الأولويات، ويصبح الإبداع والحرية الفردية أولوية حاسمة بعد أن بدأ المواطن ينساها من فقره المدقع. أما إن لم تتحسن الحال واستمرت العجلة الحضارية بدورانها السريع للخلف فمن يدري قد تكون بلادي السعودية الدولة الليبرالية الوحيدة عربياً. صحيح أن العجلة لدينا تدور ببطء ممل يكاد يقتلني أحياناً وبمعدلات تسارع متدنية لكنها على الأقل تدور تارة للأمام وتارة للخلف... وحتى إن لم يكن ذلك الدوران حقيقياً فالطبيعي أن يدفع الوضع إلى تحريض الناس على الخروج منه لعباءة أخرى غير العباءة السياسية التي لن يفضلوها عليه، بل هناك نزعة قوية لدى الكثيرين للخروج من القمع المتشدد إلى فضاء الحرية الرحب، وهذا نلحظه بشدة بالأحاديث العامة وقضايا الرأي العام التي تثار وتثبت أن السكان بدأوا يتململون من سلطة رجال الدين التي طال عهدها بعد أن كانوا في ما مضى يعتقدون أن الأنسب هو الاحتماء من كفر الحضارة خلف عباءات أصحاب العقيدة. ما آمل أننا اقتربنا من بداية نهايته يبدأه العرب اليوم. هربوا من عباءة المستبد السياسي للارتماء بحضن الدين خطأ تاريخي لن ينسوه. سعودياً. قد نكون بدأنا أولى خطوات التمرد على محاكم التفتيش وصكوك الغفران. ومن يدري فقد نقوم لاحقاً بتصدير الليبرالية لجمهوريات العرب مثلما استوردناها منهم ذات مرة. كاتبة وإعلامية سعودية [email protected] نقلا عن الرأي العام الكويتية