النجاح الحقيقي للانتفاضات العربية ليس في إسقاط الأنظمة القائمة، وإنما في مدى قدرتها على تقديم بديل للدولة القادرة على البقاء، ومواكبة طموح الجماهير وتطلعاتهم، وبالذات آمال الثوار الذين قدحوا زناد الثورة وأشعلوها.. تجربة إيران (الثورية) تجربة يجب أن يقرأها الثوار بعناية، ويتخذ منها المنتفضون عبرة لهم، فقد أفرزت بديلاً سيئاً وفاشلاً انتهى إليه الإيرانيون بعد إسقاط نظام الشاه. في البداية سارت جميع التيارات والأطياف الإيرانية، رغم تبايناتها، خلف الخميني، بعد أن جمعتهم كراهيتهم للشاه على إسقاطه؛ وبعد أن سقط الشاه، ووصل الخميني وملاليه إلى السلطة، ألغوا جميع التيارات المتحالفة معهم، وأقصوهم خارج السلطة، ووضعوا شروطاً تضمن أن يكون كل من يصل إلى قمة الهرم مؤمناً بولاية الفقيه كشرط ضرورة، ومن هم خارج هذا الطيف (صُنِّفوا) إما أنهم أعداء للثورة، أو لا يحق لهم أن يقودوا إيران الثورة، لأنهم ليسو (أمناء) بما فيه الكفاية للقيادة؛ ويقوم مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي أنشأه الخميني، بمهمة الفرز وتمييز الصالح من الطالح؛ والنتيجة أصبح الملالي هم (فقط) من يحكمون إيران، وما عداهم خارج السلطة تماماً، إذا لم يكونوا في سجونها، أو هم مشردون في المنافي. نظام الملالي يحكم الآن بالحديد والنار، وسجون (الباسيج) مأوى كل من اختلف لو اختلافاً بسيطاً مع الولي الفقيه، أو (الولي الديكتاتور)، وتحول الولي المُعمم إلى شاه آخر، يستمد قوته وسطوته وحكمه من المذهب الجعفري الاثني عشري، وما على الشعب إلا الرضوخ لإرادة وكيل الله في الأرض كما يُقدم نفسه. تجربة إيران لا يمكن أن نغفلها ونحن نرى تيارات الإسلام السياسي، أو (الحركي) هم الأقرب لأن يرثوا الأنظمة العربية المنهارة. ففي تونس فاز حزب النهضة بأغلبية مقاعد البرلمان، وفي مصر كل التوقعات تقول إن الإخوان قادمون، وفي ليبيا التيارات (الحركية) الإسلاموية هي الأقوى، و(مجاهدوهم) هم أصحاب الفضل بجانب (حلف الناتو) في إسقاط القذافي، ولا بد من أن يجنوا ثمرة انتصارهم. والسؤال: هل تتجه هذه التيارات إذا ما حكمت من خلال صناديق الاقتراع بتفصيل دساتير (مفبركة)، وآليات حكم تضمن لهم دون سواهم البقاء في السلطة، وتُقصي الآخرين، كما هي التجربة الإيرانية، أم يتخذون من التجربة (الأردوغانية) الإسلامية في تركيا أنموذجاً، ويسمحون بتداول السلطة بين التيارات دون تمييز، حتى وإن كان المنافس من أقصى اليسار أو أقصى اليمين؟.. أي بلغة أدق: هل سينحون إلى إنشاء (دولة كهنوتية) يتربع رجال الدين على قمة السلطة فيها كما في إيران والفاتيكان، ويُقصون الآخرين، أم سيقيمون (دولة مدنية) تؤمن بالتعددية، وتداول السلطة، ويكون الفيصل فيها للدستور والقانون، ولمن ينتخبه الشعب، دون أن يكون هناك شروط مسبقة ابتداء؟ في تقديري أن فشل تجربة إيران، والمشاكل الاقتصادية التي تواجهها في الداخل، والفقر، وانتشار المخدرات، وارتفاع معدلات البطالة، وتوتر العلاقات مع أغلب دول العالم المتحضر، ناهيك عن الحصار الاقتصادي، تجعل الحل الإيراني أشبه ما يكون بمحاولة انتحار فيما لو تم الاقتداء به، في حين أن ما حققته التجربة (الأردوغانية) في تركيا من نجاح، ونمو اقتصادي، ورفاه للإنسان التركي، يجعل منها مصدر إلهام وجذب للجمهوريات العربية التي أسقطت أنظمتها، وتبحث عن حلول ذات مرجعية إسلامية. يكفي أن تقارن تركيا أردوغان بجارتها اليونان، يتضح لك تفوقها؛ تركيا رفض الأوربيون انضمامها إلى اتحادهم ومع ذلك تفوقت، وجارتها اليونان قبلوا بانضمامها، وها هي اليونان تكاد أن تكون سبباً في انهيار الاتحاد الأوربي اقتصادياً. تجربة أردوغان يجب أن تكون خطة طريق، ومثالاً يُحتذى للجمهوريات العربية التي نجحت في إسقاط أنظمتها الحاكمة، وهي الآن تتلمس حلولاً لدولة الرفاه، والقانون، والعدالة الاجتماعية، والتعددية، وتداول السلطة. تجربة تركيا هي تجربة دولة معاصرة، نأت بنفسها عن دولة الغوغاء، والجعجعات الشعاراتية، فحققت من النجاح ما تؤكده الأرقام التي لا تكذب. نقلا عن الوطن