أكتب اليوم من أبوظبي، حيث شاركتُ، بدعوة كريمة من وزارة المالية بالإمارات العربية المتحدة، في "منتدى التكامل المالي والاقتصادي الخليجي"، الذي عُقد الأحد 23 أكتوبر 2011. عُقد المنتدى في قصر الإمارات، أحد التحف المعمارية في المنطقة. وعلى الرغم من أنني زرتُ هذا الفندق مرات عديدةً منذ افتتاحه في أواخر عام 2005، إلا أنني ما زلتُ أكتشف كل مرة خبايا جميلةً في زواياه المتعددة، وممراته التي لا تنتهي، فسكنك في هذا الفندق المترامي الأطراف يضطرك إلى المشي شئتَ أم أبيت، ربما بضعة كيلومترات في اليوم داخل القصر نفسه، فضلاً عن حدائقه وشواطئه. ولكن الحديث عن المكان موضوع ليوم آخر، إذ أريد اليوم أن أضع القارئ في جو النقاش الحيوي الذي دار في المنتدى. ومع أن كلمات معظم المتحدثين ركزت على التجربة التكاملية لدول مجلس التعاون، كما كانت توجيهات منظمي المنتدى، إلا أن ممثل صندوق النقد الدولي ربط بين هذا التكامل والحاجة إلى تبني سياسات اقتصادية جديدة تتلاءم مع التحديات التي تواجهها هذه المنطقة. والنقاط التي ذكرها هامة في حد ذاتها، بصرف النظر عما إذا كانت ذات علاقة قوية بالتكامل الخليجي. وأورد ممثل الصندوق العديد من التحديات التي يرى أن دول المجلس تواجهها، خاصة فيما يتعلق بالسياسة المالية الحكومية وأسواق المال والنقد. ولكني سأقتصر على ما يتعلق بإصلاح سوق العمل وتوفير فرص التوظيف للمواطنين، فقد تكون أكثر المواضيع إلحاحاً. وهناك سبب آخر أثار اهتمامي، فمن غير المعتاد أن يتحدث صندوق النقد الدولي عن إصلاح أسواق العمل، فضلاً عن تشجيع توظيف المواطنين. فالحكمة المعتادة من الصندوق تتلخص في أن خير ما تفعله الحكومات هو أن تترك سوق العمل تنظم نفسها بنفسها، وأن "الكفاءة" الاقتصادية تتطلب أن يحصل أصحاب العمل على عمالهم بأرخص الأجور، مما يخفض تكاليف الإنتاج ويخفض الأسعار ويحقق أعلى الأرباح. تحدث ممثل الصندوق عن أهمية توفير فرص عمل للمواطنين كأولوية أساسية. وأشار إلى أن سياسات التوظيف يجب أن تكون موجهة لتوظيف الشباب الداخلين إلى سوق العمل، وذلك عن طريق توفير الحوافز لهم لكي يشاركوا فيه، وتزويدهم بالمهارات التي يحتاجها أصحاب الأعمال. وهذا على المدى الطويل هو ما سيحقق الكفاءة الاقتصادية وزيادة إنتاجية الاقتصاد وتنافسيته. ولكن على المدى القصير، قد تكون سياسة فرض نسب معينة لتوظيف المواطنين أمرا لا مفر منه، على الرغم من تأثيرها السلبي على الكفاءة الاقتصادية. وهذه النقطة الأخيرة غير معتادة من الصندوق. ثم تطرق ممثل صندوق النقد الدولي إلى الجانب السلبي لزيادة التوظيف في القطاع الحكومي، وخاصة زيادة الرواتب والمزايا للموظفين في هذا القطاع، لأن لهذه الزيادات تأثيرا عكسيا على السياسات المعلنة لتشجيع التحاق المواطنين بالقطاع الخاص، ذلك أن هذه الزيادات تؤدي إلى رفع توقعات المواطنين حول مستوى المرتبات التي يمكن أن تجلبهم للقطاع الخاص، مما يجعل توظيفهم أكثر صعوبة. وقد نتفق أو نختلف حول هذه النقاط، أو حول السياسات التي ينبغي تبنيها، ولكن المهم أن تكون محل نقاش جاد وحوار مستمر، لأن مستقبل دولنا وأبنائنا وبناتنا يتوقف على معرفة الوصفة الصحيحة التي تضمن استدامة الرخاء وتوفير الفرص المستقبلية لهم. ففي الوقت الحاضر، ليست هناك برامج فعالة لتحقيق الأهداف المعلنة بمنح الأولوية للمواطن في الوظائف الجديدة. فواقع الحال هو أنه من بين كل سبع وظائف جديدة في الاقتصاد الخليجي، يذهب خمس منها على الأقل (أو 70%) للعمال الأجانب، في حين لا يحصل المواطن إلا على اثنتين فقط، أو 30%. وينعكس ذلك على مستويات البطالة. فحسب الإحصاءات الرسمية ارتفع معدل البطالة للمواطنين في المملكة العربية السعودية من 8.3% عام 2001 إلى 10.5% عام 2009، آخر سنة تتوفر فيها إحصاءات رسمية للبطالة، ولكن تشير الدلائل إلى أن معدل البطالة قد تجاوز الآن حتى هذا المعدل المرتفع نسبياً. وأحد أسباب البطالة هو تعلق الشباب بالوظيفة الحكومية وعزوفهم عن العمل في القطاع الخاص. وهذا سببه بسيط يعود إلى الفجوة بين القطاعين الخاص والعام، فظروف العمل في القطاع الحكومي أفضل من ظروف القطاع الخاص، وهذه الفجوة في زيادة وتجذّر، سواء من حيث الرواتب أو ساعات العمل أو الأمن الوظيفي، فالمرتبات أعلى في القطاع الحكومي، وساعات العمل أقصر، والأمن الوظيفي لا مثيل له. في حين أن أجور العاملين في القطاع الخاص في الدول الصناعية والمتقدمة اقتصادياً أعلى بكثير من مرتبات الموظفين الحكوميين، أما ساعات العمل فهما سواء. ولهذا فإن تقليص الفجوة بين القطاعين أمر لا مفر منه. نقلا عن الوطن السعودية