تلعب المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية دورا حيويا في البنية الاقتصادية للمملكة، وتقوم هي وشقيقتها المؤسسة العامة للتقاعد بدور فاعل في إدارة مقدرات العاملين في القطاعين الحكومي والخاص ومدخراتهم التقاعدية، لتأمين عيش كريم لهم ولأسرهم وأبنائهم في نهاية مشوارهم الوظيفي. ومن بداهة القول إن تمويل هذين الصندوقين يمثل التحدي الأكبر والأهم أمام قدرتهما على الإيفاء بالالتزامات المالية المترتبة عليهما؛ إذ إن الاعتماد على موارد الصندوقين من اشتراكات المنتسبين المستقطعة من الرواتب الشهرية لا يمكن أن تحقق لهما الاتزان المطلوب. ويمثل هذا الواقع تحديا أكبر في حالة المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بالنظر إلى غياب آليات فاعلة تلزم مؤسسات القطاع الخاص بتسجيل كافة منسوبيها وبأجورهم الحقيقية . أبسط مثل على ذلك هو أن أكثر من 24 في المائة من المشتركين المسجلين في المؤسسة لا تزيد أجورهم على الحد الأدنى البالغ 1500 ريال، فيما تقل أجور 47 في المائة أخرى عن 3000 ريال. وإذا احتسبنا نسبة الاستقطاع التي يفرضها نظام المؤسسة والبالغة 18 في المائة من الأجر الشهري لتقوم عند التقاعد بصرف معاش تقاعدي شهري لا يقل عن 1725 ريالا، أي أكثر من الحد الأدنى للأجر المسجل للمشترك، فإننا سنلمس مقدار الخطر الذي يحدق بالمؤسسة وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاه المشتركين. وقضية التمويل في صناديق التقاعد يتم التعاطي معها في كل الدول عبر تبني وسائل تدعم مصادر التمويل الأساسية من اشتراكات الموظفين، بما فيها الدعم الحكومي والاستثمار وغير ذلك من الوسائل. هذا المقال يتناول واقع استثمارات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بصفته أحد أهم وسائل التمويل فيها، وهو ما أرى أنه ينطبق أيضا على حالة المؤسسة العامة للتقاعد بشكل عام. تفيد المعلومات المسجلة عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بأن إجمالي أصولها الاستثمارية يبلغ نحو 340 مليار ريال، منها نحو 65 في المائة استثمارات محلية داخل المملكة، فيما تبلغ نسبة الاستثمارات الخارجية نحو 35 في المائة من تلك الأصول. وتتشكل استثمارات المؤسسة الداخلية في أسهم ملكية في شركات محلية، منها شركات المساهمة العامة مثل البنوك التجارية وشركات البتروكيماويات والشركات الصناعية، علاوة على أسهم ملكية أخرى في شركات مساهمة مغلقة أو شركات ذات مسؤولية محدودة بما فيها شركات طبية وسياحية وعقارية وزراعية وغير ذلك. وتبلغ العوائد على هذه الاستثمارات الداخلية والخارجية حسب سجلات المؤسسة أرقاما تتراوح بين 7 في المائة و9 في المائة في العام الواحد. هذه المعلومات والأرقام جعلتني أسجل حولها عددا من الملاحظات والتساؤلات، فعلى الرغم من أن حصة المؤسسة من الاستثمارات الداخلية هي حصة مؤثرة حجما ونوعا، إلا أنني أرى أن الحصة المخصصة للاستثمارات الخارجية هي أكبر مما يجب، خاصة عندما نربط هذا الواقع بالجهود التي تبذلها الهيئة العامة للاستثمار لاستقطاب استثمارات أجنبية إلى المملكة، وخاصة عندما نتذكر كم الفرص الهائلة التي تقدمها المملكة في خططها وبرامجها التنموية. قد يقول قائل إن واقع الاقتصاد العالمي وما خلفته أزماته المتتالية من فرص استثمارية واعدة لا يجوز أن تغمض المؤسسة عنها الأعين، وأن واقع الاستثمار في السوق السعودية لا يقدم كثيرا من الفرص في ظل انحصارها في قناتي الأسهم والعقار لا غير، وهما القناتان اللتان وجهت إليهما المؤسسة كثيرا من أصولها الاستثمارية. ولمثل هذا أقول إن مؤسسة بحجم المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وبمثل هذه الرسالة التي تحملها، وبمثل هذا الكم الكبير من الموارد المالية السائلة، يمكن لها أن تلعب دورا فاعلا في صناعة الفرص الاستثمارية عوضا عن الاكتفاء باقتناص ما يطرحه السوق منها بين الفينة والفينة. إن هذه المؤسسة التي قدمت نموذجا يحتذى في هيكلة عملياتها الداخلية، وتوظيف التقنية المتقدمة في مجمل أنشطتها وخدماتها إلى الحد الذي جعلها قبلة لجوائز التقدير والامتياز، يمكنها بقليل من الجهد أن تلعب دورا تنمويا بارزا في هيكل الاقتصاد الوطني. إن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وهي المسؤولة عن تأمين مستقبل منسوبي القطاع الخاص، لهي الأولى بلعب دور فاعل في تنمية هذا القطاع والمساهمة في تنويع مجالاته وأنشطته، ليس فقط من منطلق وطني بحت، وهو منطلق مشروع في كل الأحوال، ولكن من منطلق استثماري يؤكد الحاجة إلى تنويع مصادر الدخل والاستثمار، وخلق فرص استثمارية جديدة تعود على المؤسسة بعوائد مجزية ندعم احتياجاتها التمويلية، وعلى الوطن بالخير والرخاء والاكتفاء الذاتي. كم أتمنى أن تقوم المؤسسة بتخصيص جزء يسير من أموالها لتمويل مبادرات الشباب ودعم جهود البحث والتطوير ودعم الحاضنات التقنية والصناعية وغير ذلك من الجهود التي تسهم في خلق كيانات استثمارية تدعم تنويع مكونات الهيكل الاقتصادي الوطني. التساؤل الآخر الذي أود طرحه هو حول استثمارات المؤسسة العقارية، وهي الأبرز والأكثر وضوحا للعيان؛ كونها تلوح للرائي في شكل أبراج شاهقة ومبان فارهة في كثير من المواقع في عدد من مدن المملكة. إن مجمل قيمة الاستثمارات العقارية في محفظة المؤسسة الاستثمارية تبلغ فقط ثمانية مليارات ريال، وهو رقم أجده منخفضا بالنظر إلى حجم الفرص المتاحة في هذا القطاع. المشكلة هنا لا تكمن فقط في قيمة هذا الرقم، ولكن أيضا في نوعية المشروعات التي ضخت فيها المؤسسة هذه الاستثمارات. ففي الوقت الذي تشهد السوق العقارية طلبا متزايدا على الوحدات السكنية، وعلى منتجات الرهن العقاري، نجد المؤسسة وقد انخرطت في بناء مشاريع لمجمعات تجارية ومكتبية، لتسهم هي والمؤسسة العامة للتقاعد في تعميق هذا التوجه الذي تشهده السوق من هذا النوع من المنتجات العقارية. الأهم من ذلك أن المؤسسة أشغلت نفسها بالعمل كمطور عقاري بما يمكن أن يشغلها عن أداء مهامها الأساسية. وأنا هنا أستغرب إصرار المؤسسة على الاستثمار العقاري المباشر في الوقت الذي قررت بقناعة ذاتية خالصة الابتعاد عن الاستثمار المباشر في مجالات أخرى، بما فيه المجال الطبي الذي كانت قد بدأت مبكرا بالانخراط فيه، وقررت أن تتحول إلى مستثمر مساهم في كيانات اقتصادية، والابتعاد عن التشغيل المباشر لتلك الأنشطة. ما أتطلع إليه في هذا الجانب أن تقوم المؤسسة بجهد فاعل يسهم في معالجة أزمة الإسكان في المملكة، وتحقيق عوائد مجزية من هذا القطاع الذي لم يجد بعد من يخوضه بما بتطلبه من احترافية واقتدار. وأنا هنا لا أدعو المؤسسة إلى بناء مجمعات سكنية بشكل مباشر، ولا إلى محاكاة برنامج مساكن الذي طرحته المؤسسة العامة للتقاعد دون أن يحقق الأهداف المرجوة منه. ولكنني أدعوها إلى قيادة مبادرات حقيقية لتأسيس كيانات متخصصة في التطوير العقاري المتخصص في مجال الإسكان وخدماته المختلفة، ودعم الجهود الموجهة لتطوير تطبيقات أنظمة البناء الحديثة، وغير ذلك من الفرص المتعلقة بهذا القطاع. نقلا عن الاقتصادية .