إذا أردتم أن تعرفوا التوجهات الاقتصادية لأي دولة فانظروا ماذا يدور داخل جامعاتها ومختبراتها البحثية. هذه القاعدة صحيحة مائة في المائة في الدول التي تخطط بدقة وتنفذ بالتزام. تصنيف شنغهاي للجامعات الأكثر تميزا في البحث العلمي يعكس كالمرآة تطلعات كل دولة ونصيبها في الاقتصاد العالمي بعد 30 عاما من الآن، وأقول 30 تحديدا لأسباب تاريخية ستظهر في السياق. سأعرض في هذه القراءة المختصرة لإسرائيل، لأنها الدولة الوحيدة المتفوقة علميا في منطقة الشرق الأوسط، وقد حاز قبل يومين أحد علمائها جائزة نوبل في الكيمياء، رغم أنها ليست نفطية، وغير مستقرة أمنيا. تطل إسرائيل برأسها في تصنيف شنغهاي بوضوح في مجالات الرياضيات وعلوم الكمبيوتر. خمس جامعات إسرائيلية في صدارة أفضل 100 جامعة حول العالم في هذين الحقلين، إنجاز مذهل في وقت قياسي يطرح سؤال: لماذا اختارت إسرائيل أن تنحو باتجاه تقنية المعلومات؟ ربما يقرأ العرب هذه المعلومة بسوء نية تجاه الإسرائيليين، يظنون أنهم يطورون نظمهم الإلكترونية لأغراض التجسس والرصد، لا أملك أن أمنعهم فربما يملكون جزءا من الحقيقة، لأننا نعلم أن الطائرة الأميركية التي قضت على الإرهابي أنور العولقي في منطقة وعرة بين الجوف ومأرب في اليمن كانت بلا طيار. عمليا، التقنية هي التي قتلت العولقي. لكن الحقيقة الأشمل أن اختيار إسرائيل الإبحار في علوم التقنية كان لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى وليست أمنية أو استخباراتية. إسرائيل تشبه تايوان كثيرا في ظروفها، فهي بلد ينام بجانب أعدائه، ذو مساحة وموارد محدودة، يلقى دعما أميركيا اقتصاديا أو سياسيا. والمصادفة أن الدولتين اختارتا العلوم نفسها؛ علوم الكمبيوتر والرياضيات، فكانت خمس من جامعات تايوان أيضا تتصدر المشهد في شنغهاي في أفضل 100 جامعة حول العالم في ذلكما التخصصين. يصعب على الدول الصغيرة أن تزاحم في الصناعات الضخمة أو الشراكات الاستثمارية الكبيرة، لذلك تختار أن تبرع في الحقول ذات الاستخدام العالمي الواسع وتكتلات المشروعات الصغيرة، فيرتفع ناتجها المحلي بأقل التكاليف. لذلك يحق لنا أن نحسد تايوان الدولة المتأرجحة سياسيا بسكانها ال23 مليون نسمة على ناتجها المحلي الذي بلغ 418 مليار دولار في عام 2010، أو إسرائيل ذات السبعة ملايين نسمة التي تنتج محليا 200 مليار دولار في العام الواحد بدافع رئيسي من صناعات التقنية التي جاءت على أثر المخصصات المرتفعة للبحث العلمي في هذا الحقل. إسرائيل البارعة بحثيا في التقنية تستقبل منذ سنوات قليلة مستثمرين من دول العالم ينشدون لديها أنظمة البرمجة والتقنيات الحديثة. حتى الصين، جبارة الاقتصاد العالمي، يتراكض مستثمروها إلى تل أبيب لعقد شراكات استراتيجية. اختيار موفق في منطقة متخمة بالنزاعات وضئيلة في التنمية. أحد المستثمرين ذكر خلال زيارته قبل 6 أشهر أن «إسرائيل تمتلك المعرفة والصين لديها المال»، وأنهم سيحاولون كسر حاجز المسافة والثقافة لتنمية الاستثمارات الصينية في إسرائيل. وبعدها بأشهر قليلة اقتنصت مخرجة إسرائيلية جائزة «إيمي» العالمية في فئة العلوم والتكنولوجيا عن فيلم وثائقي باسم «وليد غوغل» يحكي قصة زوجين استخدما جهاز الحاسوب الشخصي لاختيار المادة الوراثية لطفلهما الموعود، وبالمواصفات الشكلية والشخصية التي يرتضيانها، تلت ذلك سلسلة من مراحل إرسال العينة إلى الولاياتالمتحدة ثم الحمل فإنجاب الطفل الذي اتخذ عن جدارة لقب طفل غوغل. إسرائيل التي يظن العرب المتربصون بها أنها لا تفقه سوى الصناعات الحربية والتسليح النووي تمتلك خمس جامعات بحثية في التكنولوجيا قدمت لصناعتها المحلية الممزوجة بالشراكات العالمية مبتكرات بحثية ستضخ للعالم التقنيات المتطورة والبرمجيات الحديثة خلال سنوات قليلة، وستصبح إسرائيل في غفلة من أعدائها أحد أهم منتجي التقنية على مستوى العالم. إنها إسرائيل اللئيمة؛ يحاربها العرب بلغة اللسان وترد عليهم بلغة العقل، يصدرون لها الكراهية فتكيدهم بالبحث العلمي، يتصدرون قائمة البلدان الأقل في التنمية وتتصدر هي تصنيف شنغهاي. * كاتبة سعودية عن الشرق الاوسط السعودية