المصلحة الوطنية دون إطار قيمي تكون كلمة مطاطة يمتطيها أصحاب المشاريع المؤدلجة لتمرير مواقفهم وآرائهم بغض النظر عن التأثير الحقيقي والإيجابي، ودون التساؤل إلى أي مدى تحقق أفكارهم وتوجهاتهم المنفعة للوطن والمواطنين. والمشهد على الساحة الداخلية أشبه ما يكون بصراع الديكة، يحاول كل فريق هزيمة الفريق الآخر تسفيها وتسطيحا، وليس تقديم حلول عملية ومحاولة الإقناع وتبيان الإيجابيات والمنافع على أرضية المشترك الوطني. هذا الوضع يقلل من قدرتنا على التطور واللحاق بركب الحضارة الإنسانية وبناء نظام اجتماعي مبني على الاحترام المتبادل مهما كانت درجة الاختلاف بالتزام مبدأ حق المواطنة للجميع وكفالة حرية التعبير. يجب أن يعلم الجميع أننا نعيش في السفينة نفسها، وأنه لا يمكن أن تبحر بأمان دون تعاون الجميع من خلال رؤية مشتركة وعمل تعاوني يعود بالنفع على الجميع. كيفما نكون تكون التنمية، هذه حقيقة يجب علينا أن نعيها ونؤمن بها، من أجل أن نحرر أنفسنا من قيود الأفكار السلبية والأنانية البغيضة والمصالح الآنية، وهي جميعها معوقات الانطلاق بمجتمعنا نحو مستويات أعلى من التقدم الاقتصادي والتقني والمعرفي والحضاري. التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليست عملية اقتطاع جزء من الكعكة الاقتصادية أو فرض أجندة فكرية على المجتمع، بل هي بذل وعطاء وتضحية وتسامح وجد واجتهاد وجهد عضلي وإبداع فكري والمهم تناغم بين مكونات المجتمع في حالة من التكامل الاقتصادي والترابط الاجتماعي وتوجيه الطاقات والجهود والأفكار نحو هدف استراتيجي هو رفعة الوطن والحفاظ عليه قويا متماسكا. لكن الواقع للأسف يقول إن هناك من يقدم الانتماء الفكري على المصلحة الوطنية، وهو أمر جد خطير يفت في عضد المجتمع ويشغله في مواضيع جانبية لا تسمن ولا تغني من جوع في حوار فكري تجريدي عقيم بعيد كل البعد عن واقعنا، ولا يسهم في معالجة قضايانا وطرح حلول عملية لمواجهة المتغيرات والتحديات التي تحاصرنا من كل حدب وصوب. هذه ليست دعوة لقولبة المجتمع في نمط واحد من التفكير وإلغاء التنوع والاختلاف الفكري، وإنما يكون النقاش داخل إطار من الثوابت الوطنية والفهم الصحيح للقيم الإسلامية العظيمة. وعندما نقول الثوابت الوطنية لا نقصد الجمود والتقوقع على الذات، ولكن أرضية ننطلق منها ومرشد عام يوضح معالم الطريق، ونحدد من خلاله كمجتمع ما يصح وما لا يصح، وآلية لإدارة الاختلاف. البحث عن المشترك واحترامه لا يلغي التنافس، ولكن يقننه ويرشده ويرتقي به ليكون إيجابيا وأمرا محمودا . العمل داخل إطار الثوابت الوطنية يدفع نحو تلاقح الأفكار وتطويرها والبحث عن الأفضل بدلا من المعارضة في فراغ قيمي وانفلات فكري تسيطر عليه الأهواء الشخصية والحماس الجماعي العاطفي والاصطفاف الفئوي، ليكون تصنيف الأفعال على أساس أيدولوجي، وليس مدى الإسهام في التنمية الوطنية، فترى الكثيرين وقد انخرطوا في برامج ومشاريع لا طائل من ورائها سوى إثبات موقف وراحوا يرددون الشعارات وينتهزون أي مناسبة للّمز وهمز الفريق الآخر مرة بالتصريح ومرات بالتلميح حتى غدت قضايانا الوطنية أسيرة هذه النقاشات العقيمة تراوح مكانها بل تهوي إلى الأسفل بتسطيح كل فريق الآخر، وصار الحوار يختزل ب"إذا لم تكن معي فأنت ضدي". هكذا يستمر الحراك الثقافي في معظمه شكليا فارغا بخطاب يدعي النخبوية بلغة غارقة بالتنطع بمصطلحات أدبية ليست لها دلالات عملية، ليبقى هؤلاء النخب في أبراجهم العاجية مترفعين أو بعيدين عن هموم واحتياجات الناس المعيشية. ليس ذاك وحسب، وإنما نقاشهم الفكري المحتدم يثير زوبعة من النزاعات داخل المجتمع تؤثر في توازنه وتخترق حتى ثوابته لتحل ثقافة الفزعة والنخوة، ولينقسم المجتمع بين الإفراط والتفريط، وتتجلى حالة من التطرف المقيت يغذي بعضه بعضا، فالتطرف يصنع التطرف لندخل دائرة من الشر لن يوقفها إلا التمسك بالثوابت الوطنية والعمل من خلالها. من الغريب العجيب أن تطرح قضايا أو مطالب لبعض المواطنين في توقيت نكون أحوج ما نكون للتقارب والتعاضد، ولذا يكون من الجبن وعدم المروءة وخروج عن الخط الوطني استغلال الظروف لفرض أجندة بدعم ومساندة من الخارج. على سبيل المثال: هل من المصلحة الوطنية إثارة قضية قيادة المرأة بهذا الأسلوب السمج والسطحي من الطرفين المطالب والرافض. لقد كان التساؤل المطروح: هل أنت مع أم ضد قيادة المرأة؟ وهذا مرة أخرى يثبت أن النقاش على مستوى الأيدلوجي. لقد كان من الأجدر إعادة صياغة السؤال صياغة عملية واقعية ليكون: هل الظروف مهيأة لقيادة المرأة للسيارة؟ هكذا يكون التركيز على جوهر المشكلة والجوانب العملية المشتركة؛ لأن من يعارض هو لتخوفه من عدم الانضباط، ومن يطالب يستطيع إقناع الآخرين بأن قيادة المرأة يمكن تطبيقها بشرط التهيئة وبتدرج. ومع هذا هناك الكثير من القضايا التي تحتل أولوية قصوى لم ينبرِ لها أحد مثل الفقر الحضري والتلوث البيئي والبطالة والازدحام المروري والتضخم؛ لأنها خارج الصراع الأيدلوجي، وتكاد تكون قضايا عملية لا تحتمل الاختلاف. والحقيقة أن الاختلاف الأيدلوجي لا بأس به إذا كان يدخل ضمن دائرة الوسائل والآليات، ويفضي إلى حلول جديدة، فهناك على سبيل المثال تباين في وجهات النظر بين المحافظين والأحرار في بريطانيا وبين الجمهوريين والديمقراطيين في الولاياتالمتحدة فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي ونسبة الضريبة وسعر الفائدة وسياسات وبرامج الخدمات الاجتماعية، ولكن كل ذلك من أجل تحقيق المصلحة الوطنية وإيجاد خيارات تعالج المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وليس للمناكفة الفكرية وإضاعة الوقت في إثبات من المخطئ. إن على مثقفينا وأصحاب الرأي التخلي عن حالة التشنج، فالظروف لا تسمح بهذا الترف الفكري، والمجتمع ينتظر منهم التسابق من أجل الوطن وليس التصادم من أجل أفكار لا تمت للواقع بصلة. نقلا عن الاقتصادية السعودية