ليت المصريين يتدارسون الوضع العراقي بعد سقوط نظام صدام حسين للتبصر وأخذ العبرة. حينما حلت القوات الأميركية الجيش العراقي بعد سقوط بغداد، تركته عرضة للانتقام من المناوئين لصدام حسين طال حتى المستضعفين من الجنود الذين لم يكونوا يملكون خيارا لسلامتهم أو للقمة عيشهم سوى الانصياع والانضمام للجيش. تفكك أحد أكبر الجيوش العربية إلى مجاميع جائعة ومرتزقة من السهل شراء ذممها، فتكونت جبهة معادية لأي نظام حاكم جديد كان سببا في تشردها. ثم شكل بول بريمر الحاكم المدني الأميركي هيئة اجتثاث البعث للتخلص من مخلفات النظام السابق. كانت هاتان الخطوتان إيذانا بفترة طويلة من الاضطرابات والحروب الداخلية والتدخلات الأجنبية قضت تماما على القيمة السياسية والإنسانية لإسقاط الديكتاتور. هيئة اجتثاث البعث في العراق ظهرت أول ما ظهرت لتمثل العراقيين الذين استباح حقهم حزب البعث الحاكم المنهزم، فرفعت شعار المطالبة بالعدالة والقصاص من الظالمين، ظهر لاحقا أن هذا الحق أريد به باطل، حيث تحولت الهيئة إلى جهة تستهدف معظم العراقيين، حتى الذين كانوا مذعنين لصدام على مضض وقلة حيلة. وبزيادة عمر الهيئة أصبحت تستهدف كل من يقف ضد التوجه السياسي لأصحابها، إما بالتخوين أو العمل المسلح. ومن حينها وحتى اليوم وإلى غد لا ندري كم سيطول، ستظل العراق أرضا للاضطرابات وحاضنة للتطرف الطائفي لأن بعض من يقوم على هذه الهيئة متورطون أو متواطئون مع ميليشيات مسلحة أخذت مبدأ اجتثاث البعثيين ذريعة لنبذ الأطراف المخالفة مذهبيا أو فكريا فأوغلت في دماء أطياف مختلفة من الشعب العراقي لا علاقة لهم بالفكر البعثي ولم يثبت عليهم أن ارتكبوا جرما إبان حكم صدام حسين. بل واستخدمت هذه الهيئة التي تذم الطائفية وتنبذ الأحادية السياسية وتدعو للديمقراطية هذه المبادئ في استبعاد مئات من المرشحين للانتخابات لتستأثر بالنصيب الأكبر من الكعكة. أعرض نموذج العراق أمام أصحاب ثورة يناير (كانون الثاني) الذين أكلت ثورتهم النظام السابق، ثم التفتت إلى المجلس العسكري فعضت كتفه. ثورة ضروس، تمتلك طاقة هائلة، وحالة من الهياج تترجم أمامنا بأكثر من صورة أبرزها كان التركيز على الإمعان في إذلال الرئيس السابق حسني مبارك، والثانية في الهجوم على المجلس العسكري المصري. إن إدارة ما بعد سقوط الأنظمة تحتاج إلى كثير من ضبط النفس وترتيب الأولويات التي تتطلب إيثار المصلحة العامة على الخاصة، لأن الدولة بعد سقوط نظام صارم استدام عقودا بلا منافس أو شريك يصبح كالجسد المدمن يحتاج بالإضافة للدواء إلى المرور بمرحلة الأعراض الانسحابية، وفترة غير قصيرة من النقاهة ليستعيد عافيته. الخطر على المصريين وثورتهم ليس من إسرائيل الوجلة من الربيع العربي وجواسيسها الذين أظهرهم الإعلام المصري بأنهم من يثيرون الانشقاق بين الجيش والشعب. الشعب فعليا منشق على نفسه، لأنه مشتت التركيز وأهدافه متباعدة، وليس بحاجة لجواسيس من إسرائيل أو من أميركا لبث الشقاق. على المصريين ترتيب بيتهم الداخلي أولا، ومراقبة حدودهم من جميع الجهات الأربع، ووضع أولويات ليس أهمها إعدام مبارك وأولاده أو إذلال زوجته، ولا ممارسة الضغوط على المجلس العسكري الذي لولاه لقتلت الثورة في مهدها. المصريون كانوا يشتكون من غياب دور السلطة القضائية كجهة رقابة على سير الانتخابات في عهد مبارك، اليوم عليهم أن يثقوا بهذا القضاء ويتركوا له أمر محاكمة مبارك وأسرته وأتباعه. حتى أن المشككين في جدية المجلس العسكري على محاسبة مبارك عليهم أن يتحلوا بالصبر، ليس كصبرهم 30 عاما، بل يصبرون شهورا تتيح للقضاء أن يقول كلمته، وتتيح للمجلس العسكري أن يضبط الفلتان الأمني، ويشرف على انتخابات حرة ونزيهة وآمنة. هذه الصفحة ليست من اختصاص عامة الناس، فليطووها ويفتحوا صفحة المستقبل الذي لم ترسم ملامحه حتى الآن. اجتثاث البعث العراقي عقب سقوط صدام حسين يقابله انشغال المجتمع المصري بملاحقة مبارك وعائلته وترويج بعض وسائل الإعلام أن هناك تراخيا في محاكمته. وحل الجيش العراقي يقابله الهجوم القاسي على المجلس العسكري المصري الذي أصبح يتملق شباب الثورة في خطوة أسقطت الكثير من هيبة أكبر جيش عربي. والمحبط أن المجلس العسكري أصبح قلقا على مستقبله ويحاول أن يؤمن نفسه في ظل الدستور الجديد، في وقت يعاني فيه الشارع المصري من فقدان الأمن هو الآخر. المجلس العسكري بالدرجة الأولى هو حارس لاستقرار الدولة، وليس حارسا لنجاح الثورة، ومسؤوليته تتجاوز فئة محددة من الشعب حتى وإن كانت على حق، إلى كل فئات المجتمع المختلفين معهم، أو المتنحين جانبا. الحق الخاص لقتلى الثورة لا أحد يجادل فيه، ولكن الحق العام للشعب المصري أمام حسني مبارك موضوع مختلف، وإن ظن المصريون أن الحكم على مبارك هو مؤشر ضمان لمستقبل الثورة، فليتذكروا أن إعدام صدام حسين لم يحقق الاستقرار للعراقيين.