علق بعض الإخوة مشكورين على مقالي السابق (احترموا عقولنا يا مشايخ الصيرفة الإسلامية) بكثير من الحدة، خاصة من بعض قراء موقع أرقام، وهاجموني واعتبروني (مهِّوي) و (ما عنده سالفة)، لأني فقط انتقدت أسلوب بيع البضائع الصوري الذي تستخدمه مصارفنا الإسلامية ليكون (كبري) يعبر به من (الحرام) إلى (الحلال) وهو (التورق المصرفي المنظم)، وكذلك لأني استغربت كيف يمكن الاقتناع بأن هذا الأسلوب (الحيلة) يمكن أن يجعل الحرام حلالاً، وقد فعلوا ذلك لأنهم ظنوا أني بهذا أدافع عن (الحرام) وأنتقد (الحلال)، ولكونهم اعتبروا أساليب صيرفتنا الإسلامية (طاهرة مطهرة) و (حلال بلال) دون أن يخامرهم أدنى شك في ذلك، ولهذا وضعوا رؤوسهم بين أيديهم واستهولوا واستعظموا ما قلت، وأظنهم (حوقلوا) مئة مرة قبل أن يكتبوا تعليقاتهم. وأقول لهؤلاء الإخوة الكرام على رسلكم، فأساليب الصيرفة بنوعيها البنكية والإسلامية يدور حولها جدل كبير، ولا يعنيني الآن الجدل الذي يدور حول أساليب البنوك، ولكن يعنيني الجدل الكبير الذي يدور حول أساليب الصيرفة الإسلامية التي لم يخامركم أدنى شك في حِلِّها واعتبرتموها مثل العسل المصفى، وأقول إن بعض هذه الأساليب الخاصة بالصيرفة الإسلامية التي نستخدمها الآن والتي ظننتموها أبيض من الحليب ليس فقط يدور حولها الجدل، بل صدرت قرارات مجمعات الفقه الإسلامي بتحريمها، واعتبرها بعض المشايخ العليمين ببواطن أمور تلك الصيرفة ليست فقط ربا وحراما بل أشد حرمة من أنشطة البنوك. راجعوا قوائم مصارفنا الإسلامية وستجدون أن أغلب أنشطتها التحويلية تتم بأسلوب "التورق: الذي يعني بيع المصرف على المستورق بضائع بالآجل، ليتم بعد ذلك بيع تلك البضائع بثمن حال يقبضه المستورق، وهذا التورق ثلاثة أنواع.. النوع الأول التورق الفقهي القديم الذي يتم سابقاً في (الجفرة) بالمقيبرة والذي يشتري فيه المستورق بعض أكياس الأرز والسكر بالآجل، ويستلمها من البائع، ثم يبيعها هو بمعرفته على شخص آخر غير البائع الأول، ويقبض الثمن، وهذا النوع أجازه الفقهاء. ولا شك أن هذا النوع قد يحصل أحياناً في مصارفنا الحالية مع الأفراد الذين تكون حاجتهم التمويلية بسيطة ومحدودة، أما الشركات ورجال الأعمال الكبار والمصارف التي تقترض من بعضها بهذا الأسلوب فلأن المبالغ التمويلية التي يحتاجونها كبيرة جداً ربما عشرات أو مئات الملايين فإنه يتعذر أن تتم بهذا التورق الفقهي القديم لتعذر شراء بضائع بهذه المبالغ يمكن تسليمها للمستورق ليبيعها هو بمعرفته ويقبض ثمنها من المشتري، بل ولأنه لا توجد بضائع حقيقية تغطي كل هذه العمليات الكبيرة، ولذلك تتم هذه الحالات بطريقة النوع الثاني من التورق وهو (التورق المنظم) والذي يستخدم (السلع الدولية) عن طريق وسطاء دوليين يخولهم المصرف والعميل بالبيع والشراء، وتتم العمليات عن طريق المراسلات السريعة. وقد دار جدل كبير حول مشروعية هذا النوع من "التورق" الذي تستخدمه مصارفنا الإسلامية في عملياتها التمويلية الكبرى، ونتيجة لذلك بحثه مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي في جلسته المنعقدة في الفترة من 1 إلى 5 جمادى الأولى 1430 في الشارقة واتخذ فيه قراره رقم 179 المتضمن تحريم هذا النوع من التورق واعتباره ربا وفيه تحايل... وقد عرّف القرار التورق بنوعيه المنظم والعكسي كما يلي: 1) التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (الممول) ترتيب بيعها إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالباً. 2) التورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل. ثم جاء في ثانياً من القرار (لا يجوز التورقان (المنظم والعكسي)، وذلك لأن فيهما تواطؤا بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمناً أو عرفاً، تحايلاً لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا). إذن من الواضح أن مجمع الفقه يدرك أن مصارفنا الإسلامية تستخدم في عملياتها التمويلية الكبيرة ذلك (التورق المنظم) بدلالة أنه سماه "التورق المصرفي المنظم" وقال عنه "التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر" وقد حرمه واعتبره ربا، كما أن الشيخ صالح الحصين وهو الخبير ببواطن مصارفنا الإسلامية لكونه كان من أوائل المشايخ الذين أشرفوا على هيئاتها الشرعية لم يكتف بتحريم هذا النوع من النشاط المصرفي لمصارفنا الإسلامية بل اعتبره أشد حرمة من أنشطة البنوك لما اشتمل عليه من التحايل. فيا إخواني، يا من هاجمتموني وخطأتموني وسفهتم ما قلت، خاصة (بعض قراء موقع أرقام) أرجوكم راجعوا قوائم مصارفنا الإسلامية للربع الثالث من هذا العام وستجدون أن عملياتها التمويلية بعشرات المليارات، أي أن بها مبالغ كبيرة هي في الغالب لتمويل شركات ورجال أعمال كبار لبنوك ومصارف مماثلة، وهذه كلها تتم عن طريق شراء السلع الدولية بواسطة مكاتب خارجية متخصصة تنفذ العمليات بأسلوب ورقي عن طريق المراسلات السريعة، أي بطريقة ذلك (التورق المصرفي المنظم) الذي حرمه مجمع الفقه الإسلام، ولا يمكن أن تتم بطريقة التورق الفقهي القديم الذي يحدث كما قلت سابقاً في (الجفرة) في المقيبرة عن طريق شراء وبيع بضائع حقيقية واستلامها وتسليمها بشكل حقيقي، لأنه بالإضافة لتعذر الاستلام والتسلم لهذه البضائع الكثيرة المتفرقة في أماكن مختلفة من العالم فإنه لو أريد حيازة بضائع حقيقية بتلك المبالغ الضخمة التي تجريها المصارف يومياً فإنه قد يتعذر العثور على بضائع حقيقية تغطي كل هذه العمليات. لقد هاجمتموني أيها الإخوة لأني طلبت من مشايخ صيرفتنا الإسلامية احترام عقولنا وعدم محاولة إقناعنا بأن هذه البيوع الصورية (التورق المصرفي المنظم) يمكن أن تجعلنا نقتنع بأنها تجعل الحرام حلالاً، ولكن هاأنتم ترون الآن أن مجمع الفقه الإسلامي لم يكتف بما طلبته بل تجاوز ذلك إلى الانتقاد الشديد لهذه البيوع الصورية وتحريمها واعتبارها ربا يقوم على التحايل، ولذلك فإن حقي عليكم الآن أن تتكرموا بإعفائي من انتقاداتكم وتوجهوا هجومكم إما إلى مجمع الفقه الإسلامي، إذا كنتم غير مقتنعين بقراره، أو إلى مصارفنا الإسلامية إذا اقتنعتم أن ما تقدمه ليس ذلك العسل المصفى. وأخيراً فإن مجمع الفقه طلب في قراره من مصارفنا العدول عن التورق إلى الأنواع الأخرى من أساليب الصيرفة الإسلامية كالمشاركة والسلم، ومع ذلك لم تفعل المصارف ذلك واستمرت في نهجها، أتدرون لماذا؟ لأن الأنواع الأخرى يصعب أو ربما يتعذر الأخذ بها، فمن هو ذلك المصرف الإسلامي الذي سيغامر بأموال مودعيه ويدخل شريكاً مع رجال الأعمال في مشاريعهم تحت احتمال الربح والخسارة؟ وحتى لو قبل ذلك فإن مؤسسة النقد لن تسمح له بأن يغامر بأموال مودعيه بهذا الشكل، وأترك لكم استنتاج ما ترونه من ذلك، وقد أعود إليه في مقال آخر، شاكراً لكم اهتمامكم وتعليقاتكم التي أسعدتني على الرغم من حدتها. نقلا عن الوطن السعودية